عندما قال وصفي التل لزوجته: راتب رئيس الوزرا يا سعدية (...)
مدار الساعة – كتب : عبدالحافظ الهروط - يقيم الاردنيون الدنيا ولا يقعدوها في جلساتهم ولقاءاتهم وفي كل مناسبة يطل بها رحيل ابن الاردن البار وصفي التل.
مرة الشهيد، ومرة البطل، ومرة المفكر، ومرة النظيف، ومرة الرجل، ومرة أخو عليا، والكلام يطول ولا يقصر.
هذا شخص، وكأن الاردن لم يفقد من رجالاته شخصاً سواه، لماذا هذا الرجل؟
الغريب ان اجيالاً وافواجاً لم تكن في الوجود، عندما كان رئيس الوزراء او السفير او مدير الاذاعة على قيد الحياة، ولكنها تهتف باسمه وتذكره وتحارب بسمعته وتدافع عنه بكل شراسة، وتتمنى لو ان الموت لم يطوه.
شباب وشابات ورجال ونساء، تمنوا لو انهم صافحوه وطالبوه وعاتبوه وتحدثوا معه، حتى انهم حسدوا تلك الاجيال التي عاصرت وصفي، المحبين له والغيورين منه، يوم كان "سنامة" الاردن عند الشدائد، وسراجه في العتمة.
نعم، لن يكون الحديث عن وصفي التل كافياً او منصفاً له، فالذين يبنون الوطن حجراً حجراً بإرادتهم الحرة واخلاصهم النقي وبأقل الامكانات وبظروف عسيرة، ليكون المدماك مؤسسة او وزارة او منشأة اقتصادية وطبية وتعليمية ودينية وطريقاً معبدة بين الصخر وشدة الفقر، فإن الحديث عن هذه الرجالات تقف الكلمات عاجزة عن انصافهم، فالقول سهل بحق هؤلاء، ولكن ما اصعب الفعل، وان كان الكلام مرادفاُ للعمل.
وصفي التل العابر بفكره حدود الوطن والامة من خليجها الى محيطها وناسها وخليطها، وبقلبه الرافض لكل انواع الاقليمية البغيضة،والمعطاء الذي لم يكل في بناء الاردن..المحب للشعب والمنافح عن قضايا وطنه وقضايا امته وعلى رأسها القضية الفلسطينية،من الصعب نسيانه.
لن ينصف القلم وصفي وان ساح مداده على امتداده، ولا الألم الذي ران على قلوب الاردنيين وكل من عرف هذا الطود الأشم، ولكن كل الذي قيل في "سنديانة" الاردن ومن اهازيج وقصائد ونشيد واعراس وفرح وعزاء ورثاء هنا وهناك، ما هو الا جزء من التكريم، اما كرامة وصفي فهي ليست موضوع نقاش او موضوع خلاف.
وصفي، الشهيد في غير موعده (مع عدم اعتراضنا على قدر الله)، وعلى ارض ليست التي كان نذر روحه للاستشهاد فوقها، وهي بالتأكيد القدس، ومنذ تخرج من الجامعة الاميركية في بيروت والتحق بجيش الانقاذ، والاعتقال بسجن سورية العروبة!وانتهاء باجتماع وزراء الدفاع العرب في القاهرة الذي شهد استشهاده.
القصص التي يرويها من عاصروا وصفي وهم كثر، اجمعوا على انه شخصية استثنائية في تاريخ الاردن، قالها الدكتور عبدالسلام المجالي رئيس الوزراء الأسبق في جلسة معه لكاتب هذه السطور.
وروى لنا المجالي في لقاء مفتوح عندما كان رئيساً للجامعة الاردنية "كان يوماً ماطراً وقد قدم وصفي من بيته في منطقة الكمالية (قرب مدينة صويلح) متوجهاً الى رئاسة الوزراء، وفي منطقة الجبيهة شاهد طالبين جامعيين فتوقف عندهما وأدخلهما السيارة وسألهما عن مركز عملهما فقالا ندرس في الجامعة الاردنية وقد انتظرنا أكثر من ساعة وفاتت علينا المحاضرة،فنهرهما بالنزول قائلاً "شباب وتضيع عليكم محاضرة والمسافة ما بتزيد عن كيلو" ؟!
ويقول رئيس الوزراء الاسبق احمد اللوزي رحمه الله : كان اذا جمعنا وصفي طلب من حارس منزله ان يحضر لنا "شواه" من عند اللحام عادة ما تكون كيلو واقل ليقيم لنا المائدة مع حشائش مزرعته.
وفي احدى الزيارات لمنزل فقيد الامة كان عدد من شيوخ بني حميدة يؤمونه عند الظهيرة لحاجات وظيفية، فأجلسهم وذهب الى المنزل وقد أحضر "طنجرة" مملوءة بـ" المجدرة" وقال تفضلوا، فداعبوه : رئيس وزرا يا ابو مصطفى وتغدينا مجدرة؟ فمازحهم بسحب "الطنجرة" وقال "هذا الميسور" وقد وضع ملعقة خشبية كان يفضل الأكل بها، ليروي الضيوف: ولأن الجوع بلغ منا وتمكّن، افرغنا "الطنجرة" وكل ما معها من خضروات الأرض.
ونقل عن شخصية موثوقة، ان وصفي ذهب مع زوجته سعدية الى السوق، فأعجبها، خاتم ووضعته بإصبعها،الا ان ثمن الخاتم حال دون شرائه، فأعاده وصفي من يدها، وعند خروجه، قالت له سعدية، زوجة رئيس وزراء ولا تستطيع شراء خاتم؟ ليرّد عليها، راتب رئيس الوزرا يا سعدية، لا يستطيع شراء الخاتم وعلينا التزامات أخرى.
ويقول الصحفي عبدالمنعم ابو طوق وكان مدرباً لبناء الاجسام، ذهبنا الى رئاسة الوزراء حيث خصص رئيس الوزراء يوماً للقاء المواطنين، وقد هددنا صاحب المركز الذي نتدرب فيه باخراجنا بعد تراكم ثلاثة اشهر من الاجرة لم ندفعها، وعند ذهابنا للرئاسة شاهدنا المرحوم وصفي فطلب من مدير مكتبه ان يدخلنا الى المكتب الى حين الانتهاء من المواطنين، وعندما انتهى من اللقاء، جلسنا معه واخبرناه بمشكلتنا المالية والوظيفية، فقال لمديرالمكتب كم بالصندوق دينار؟ فهمس بإذنه المدير فقال وصفي "احكي بصوت عالي ليش تهمس" ؟ فذكر الرقم وقام وصفي وسلمنا المبلغ وقال الشهر المقبل اكمل لكم ما تحتاجونه، ثم تناول التلفون واتصل بمدير الامن العام وأمر بتعييننا بجهاز الأمن على النظام المدني، فقلت (ابو طوق) : سيدي انا معلم مدرسة والشابان بلا عمل، وتم تعيينهما بعد ان قال لنا "احنا يهمنا الشباب وبنحب ونشجع الرياضيين".
وصفي كانت يده نظيفة وعينه تحرس الوطن وقلبه مع الشعب، لذلك تبقى سيرته في سريرة محبيه،رحمه الله وطيّب ثراه.