رثاء متأخر للشهيد النقيب الطيار تيسير الزيود
مدار الساعة ـ نشر في 2017/11/19 الساعة 10:03
مدار الساعة - كتب : محمد عبدالكريم الزيود
أعرفُ أنّني تأخرتُ ستة وعشرين عاما لأرثيك ، فبعد أيام تمرّ ذكرى رحيلك السنوية ، ففي كانون يهطل أول المطر وتقترب مربعانية الشتاء ، ربما ألفنا الحزن كلما سقط المطر هنا ، وكلمّا داهمتنا التشارين والكوانين ، فهذي البلاد فيها من الوجع لا يغسله كل مواسم الشتاء .. أذكركَ يا تيسير وأنت تلبس أفرهول الطيران الأخضر ، كنت طويلا مزيونا يانعا لكنّك كنتَ كالرّمح فارسا ، تختال بنسر الطيران الذي يزيّن صدرك ، كنّا أصغر منكَ وأنتَ سبقتنا إلى دروب العسكرية مبكرا، فدروبها كانت هوانا عندما "شبّينا على الطوق" ، وكنّا نفرح كأول القصائد وكأول الحبّ كلما زغردتْ الصبايا في غريسا وفي العالوك لكل ضابط عاد بالنجمة على كتفه .
أعتذر منكَ فلم نرثيك حق الرثاء، لكن هل لحزن الرجال مواسم ، ألا يعرفون أن الوجع لا يلتئم حتى لو مرّت السنين عليه ، وهل يعلمون أنّ قلوب الأمهات والآباء ما زالت معلّقة بالباب لعلّ الغيّاب يعودون يوما ، وأن دمعهم يفيض كلمّا مرّوا بإسمكَ، فالدمع لا يرجع الموتى ولكنه يرطب الجوف الحزين بما فيه من الغصّات وهو وفاء ما بعده وفاء .
كنتّ تطير فوق الغيم ، تمرّ فوق بيادر غريسا ، تلّوح للرعيان ، تبتسم لطالبات المدرسة ، تتحسّس التراب والبلاد والشجر وتعرف أنك ستعود للهبوط ، ولكنّكَ لم يخطر ببالك أنّ الفرس ربما تخذل الفارس يوما ، حاولتَ وحاولتَ ولكنه الموت وضريبة الشهادة وحب الوطن، فسابقتَ الريح مستسلما لقدر الله ، كنتَ تعرف أن هناك عهد بين العسكر والتراب حتى لو كانوا بين السحاب ، هويتَ كصقر مجروح ولكنكَ بقيتَ شامخا حتى لقيتَ وجه ربك شهيدا راضيا .
لم تودّع أهلكَ يا تيسير ولربما باعد الواجب بينك وبينهم منذ أيام .. وهم الذين يودعونك كلمّا مررتَ بهم ، ودخلتَ عليهم وحمدوا الله على سلامتك .. تحفّك دعوات أمك وأمنيات رفيقة دربك وضحكات صغارك ، لكن متى كان العسكر يخافون الموت ، أو متى كان الموت بعيدا عنهم وهم بين البنادق والرصاص .
وأعرفُ أنّ بعض الخيل تخذل فرسانها .. وأعرفُ أنّ الشجاعة ما خبتْ منك ، وأنتَ تبذل جهدك وتأخذ بلجام طائرتك حتى لا تسقط ، ولكن هو قدر الله .. فما أخافك الموت ، و" نطحته ولم تهابه " كالفرسان في ساحة الوغى .. وقد جلتٓ بعينيك البلاد لتتكّحل بها آخر مرة وأنت تشهّد وتسلّم الروح ماشيا إلى الموت فارسا.
يا تيسير .. يا من تشبهنا ، ويا من تحمل ملامحنا ، فأنتم العسكر وأنتم بقيّة الطاهرين في بلدنا ، وبقيّة الفقراء وحماتهم وبقيّة وجعنا ، وأنتم الملاذ إن مسّ عمان وأخواتها كائن من كان .
بكينكَ " الزيوديات" .. وزغردن بنات عمك وأنت تمرّ ملفوفا بالعلم كالسيف في غمده ، زغردن ومسحن دموعهن لكَ ولراشد وللؤي ولعمر ولكل فارس ذهب شهيدا، فشرف الشهادة لا يعلوه شرفا ، والمجد لا يمنح بلا ثمن ، ولا يُشترى ، ولو كان يباع لإشتروه الفاسدين وتجار الوطنيات .. وخير الموت يا تيسير بين السيوف .. فما زالت بلادنا تنتج شهداء وعشاقا وفرسانا ، وإن شحّ المطر والقمح يوما فالعسكر يفيضون علينا دما ومجدا .
اليوم نمرّ على " الميزار" ونسلّم عليك في مرقد الشهداء في غريسا ، نقرأ عليك الفاتحة وعلى كل الشهداء النائمين بجوارك ، فسلامٌ عليك يا تيسير .. وسلام على الشهداء في بلادنا الذين يضيئون عتمات الليالي ، ويسجّلون أسمائهم " نشامى " .
(*إستشهد النقيب الطيار تيسير سالم فنخور الزيود إثر سقوط طائرته المروحية في 9-12-1991)
مدار الساعة ـ نشر في 2017/11/19 الساعة 10:03