الإقطاع والعشيرة.. والانتهازية

مدار الساعة ـ نشر في 2017/11/19 الساعة 00:20
بالرغم من مرور عدة قرون على ظهور الدول الحديثة التي تتبنى فلسفات ومذاهب فردية ورأسمالية واشتراكية، وتعلي فيها الامم من شأن الدستور وتحكمها القوانين التي تصوغها المجالس المنتخبة وتنفذها السلطات التي يختارها الناس بحرية ونزاهة وموضوعية، إلا أن انتشار هذه المبادئ والقيم والالتزام بها بقي بعيدا عن بعض المجتمعات العربية او شكليا ومحدودا في بعضها الآخر.
تصوير البعض لوجود تعارض بين الدين والدولة المدنية وتعصب البعض لمذاهب وقوميات واعتبارها الأساس الوحيد الصالح للنهوض، إضافة الى العديد من الأدبيات التي جرى استخلاصها من التاريخي القومي والديني والاجتماعي كانت ابرز المسوغات التي استخدمتها القوى المهيمنة لتبرير استثناء مجتمعاتنا من التحولات التي شهدها العالم نحو الدولة المدنية ومجتمعات سيادة القانون.
في غالبية مجتمعاتنا العربية بما في ذلك التي أخذت بالبنى الحداثية للدولة هناك تشوهات واضحة تتمثل في التداخل والتشابك بين الهياكل الحداثية والبنى والقيم والممارسات التقليدية الموروثة في هذه المجتمعات، حيث يعاني الفرد ما يشابه الفصام الناجم عن معايشته لحالة دائمة من التناقض بين نمطين من التصرف والأداء، فتارة يجد نفسه في وسط اجتماعي إداري سياسي يتسم بالحداثة لينتقل وربما في نفس الموقف لنمط تقليدي من التفكير والتصرف والمعاملة ولكل من هذين النمطين أصوله ومبرراته ووظائفه.
المؤسسات والأنظمة وحتى الأفراد في عالمنا العربي يعيشون ويتفاعلون ضمن منظومة قيم تمتد جذورها الى مراحل الرعي والزراعة حيث البناء العشائري والنظام الاقطاعي الذي يسيطر فيه الشيوخ والنبلاء والفرسان على الموارد ويتحكمون في توزيعها وإدارتها.
القيم القبلية وثقافة الإقطاع أثّرت كثيرا على بناء وتنظيم وأداء مجتمعاتنا التي تبدو حداثية في ظاهرها وتقليدية في جوهرها وأسلوب أدائها. هذا الواقع وما يحمله من تناقضات شكل أحد أهم العوامل المسؤولة عن حالة النقد والشكوى والتذمر التي يبديها الكثير من الناس عند حديثهم في الشأن العام. كما أنها شكلت المبرر والغطاء للكثير من الأفعال والقرارات وربما السياسات التي أصبحت موضوعا للنقد وإثارة التساؤل.
التأخر في حسم طبيعة هوية المجتمع والمؤسسات يخلق بيئة خصبة للتجاوزات ومبررا للأخطاء وملجأ للبعض للنجاة من المسؤولية والمحاسبة على ما يرتكبونه من أخطاء وخطايا. من هنا فإن كثيرا ممن يحترفون التوسط وينتقلون بين المؤسسات طالبين خدمات وتسهيلات لأشخاص يستندون في ممارساتهم الى قيم الفروسية التي تتوقع من الفارس أن يلبي حاجة المستجير أو الملهوف. الشكوى العامة اليوم من احتكار بعض أبناء المسؤولين والمتنفذين لمواقع أساسية في مؤسسات الدولة وتوارثها جيلا بعد جيل، ممارسة لها جذور في النظام الاقطاعي والنظام العشائري حيث ينظر لهذه الوظائف على انها مواقع تليق بالشيوخ وابنائهم. بدون تفكير نخاطب بعض المسؤولين عندما نريد الثناء عليهم وعلى أدائهم "والله إنك شيخ بن شيوخ" دون إدراك أن العمل المؤسسي لا يحتاج إلى عطف وجسارة الشيوخ بمقدار ما يحتاج إلى الالتزام بقواعد العمل وأسس الجدارة وموضوعية الأحكام. اليوم وبالرغم من المحاولات المتعددة للتحديث فإننا ما نزال نشهد رواسب النظام الإقطاعي ماثلة أمامنا تلقي بظلالها على الفكر والقيم والأنظمة والعلاقات وتؤثر بصورة مباشرة وغير مباشرة على كيف يفسر الناس مفاهيم الحق والفضيلة والفساد والحرية وغيرها من القضايا التي توجه العقل في تعريفه للخير والشر وأحكامه على ما هو مقبول ومرفوض أو مقدس ومدنس. فالقبيلة والعشيرة والطائفة تتقدم في القوة والتأثير على الدولة والحزب والتنظيمات الطوعية التي تؤلَّف باسم الحداثة. بعض الأصوات الشابة وغير الشابة التي ترتفع في فضاءات مؤسساتنا السياسية والاعلامية والبرلمانية تمارس شكلا أو آخر من اشكال الانتهازية والنفاق السياسي بالدعوة الى الحداثة وسيادة القانون في العلن وتعمل على مغازلة العشيرة واللجوء اليها في السعي للوصول الى المكاسب والامتيازات، ويلوذ بها للحماية إذا ما واجهته مشكلة. فالعشيرة والطائفة والطبقة كيانات ساكنة يجري إحياؤها وتفعيلها وتنشيطها واستغلالها من قبل الأفراد الأعضاء عند الحاجة والابتعاد عنها وهجرها في أوضاع الرخاء الاعتيادية. الغد
مدار الساعة ـ نشر في 2017/11/19 الساعة 00:20