في ظلال الوفاء للحسين نكتب

مدار الساعة ـ نشر في 2017/11/16 الساعة 20:15

د. رجائي حرب

قال جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال رحمه الله وطيب ثراه إن مفهوم الوطن يأتي فوق مفهوم الجغرافيا وأكثر من مفهوم التاريخ لأن الوطن هو الحياة، حياة كل مواطن وكرامته وكبرياؤه وهو مصدر وحيه ومعين إلهامه وهو الذي يعيش الإنسان في كنفه بشرف وكرامة ويكون مستعداً للموت في سبيله بفرح وكبرياء

بهذا الكلام كان جلالته يطل علينا في كل مناسبة من مناسبات الوطن ويرسخ في ذاتنا قيمة ومعاني الوطن الخالدة في الأردن والذي يختلف بمنظور العقلاء عن أي وطن في العالم؛ وربما يقول البعض أننا نبالغ عندما نقول مثل هذا الكلام ولكن واقع الحال يجعلنا نذهب إلى أبعد من منظور الجغرافيا وحدود الظلام التي وضعتها قوى الشر من مبدأ ( فرق تسد ) لتفصل فيما بيننا؛ ولكنها وهي ترسم مثل هذه الحدود الظالمة إنما تحقق مراد الله وتفعل ما كتب في علمه اللدني قبل خلق الكون كله ( ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ).

والأردن الذي نما على الضفة الشرقية من ربوة حفرة الانهدام التي تشكلت عندما بعث الله سيدنا جبريل عليه السلام ( ليعذب الذين كفروا ) ويقلب المشهد الطغياني وينهي الفاحشة التي كانت تمارسها قرى قوم لوط عليه السلام؛ إنما نما ليبقى موئلاً للشرفاء الأنقياء من بني البشر، وليكونوا ذخيرة الأمة إذا اشتد كربها وإذا أُغلقت أبواب الأمل في وجهها، نما مع صعوبة الإمكانيات ومع ندرة الرجاء فيما حولها من كيانات.

ولا ننسى وعد الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يتوعد أمة الكفر في آخر الزمان؛ ويضفي قداسة الموقف إلى هذا التراب الطاهر وعلى أهله المرابطين في هذا الحمى حتى يوم القيامة؛ عندما قال في حديثه الشريف ( قاتلونهم من شرقي النهر ويقاتلونكم من غربيه ) ليدلل قائدنا ومعلمنا صلى الله عليه وسلم أن اليهود لن يتجاوزوا النهر مهما حصل رغم علُّوهم وغطرستهم وطغيانهم، وأن شعب هذا الأردن الشامخ سيكونون بوابة الفتح للأمة وعنوان وجودها وآخر صهوة يمتطيها عباد الله الصالحين لتهب خيولهم لتحرير الأرض والإنسان من عبث الظلم وقهر الباطل؛ لذلك نجد الله في عليائه قد حشر المؤمنين في هذه الحاضرة المقدسة، وسيَّد عليهم أطهر عترةٍ في الوجود من آل هاشم من قريش، ثم اصطفى مَنْ شاء من خلقه ودفعهم دفعاً ليكرمهم كلاجئين بعد عذاب أو هاربين من خوف أو طالبين لنيل شرف النهايات العظمى التي بدأ بصيصها يلوح في الأفق القريب.

ولا ينطق سيد الخلق عن هوى عندما يخاطب الشام، كل أرض الشام، على لسان رب العزة في الحديث القدسي عندما يقول ( يا شامُ أنت صفوتي من أرضي وأهلك صفوتي من خلقي فطوبى لمن له مربظ عنزٍ فيك )؛ فيجدد تكريمنا وتكريم عيشنا وتكريم بقائنا على هذه الأرض التي تختلف عن كل الأراضين.

ولا ننسى بأن نفتخر ونعتز بأن فتح أرض فلسطين كانت بوابته على مر الزمان من هنا؛ من الأردن، فهذه جيوش نبوخذ نصر تجتاز بادية الأردن وتدخل من محور الشمال من سهول حوران لتدخل فلسطين وتسبي من تسبي من أؤلئك الذين عاثوا في الأرض فساداً، ومن أذرح العز في معان يأتي الفاروق عمر رضي الله عنه مع خادمه وهو يتبادل معه الدابة ليدخل من جنب حاضرة الكرك إلى القدس ويتسلم مفاتيحها من صفرونيوس بطريرك ديارها المقدسة، ثم تجتاز جيوش صلاح الدين الأيوبي الكرك والغور الصافي ومحور أريحا لتشكل طوقاً حول القدس ويحررها؛ وينتشر خبر النصر لكل العالم الإسلامي من مرج الحمام القريبة من عمان بواسطة حمامها الزاجل؛

ثم يتوقف التاريخ الحديث عند معركة الكرامة التي رسمت عنوةً حدود الحق والباطل بدماء الشرف الأردنية وزئير أسود الأردنيين الذين أوقفوا غطرسة جيوش الظلام والطُّغمة الفاسدة فتقهر القوة التي عظَّمها ذئاب النفاق ودُهاة السياسة لينالوا من أمتنا، فكان للأردنيين جيشاً وشعباً وشيباً وشباباً وفدائيين قولاً غير الذي قيل.

وهنا، أتقولون لي لماذا أهيم حباً وشوقاً في هذه الأرض وقد علمت كل هذا ؟ أرجوكم إعذروني ...

ولا تقل أفعال ملوك بني هاشمٍ عن هذه العظمة؛ ففي ظلال الوفاء للحسين الباني أستذكر قصةً رواها لي شخصياً سعادة السفير البوسني الذين كان في عمان عام 1995 الدكتور محمد ميهوريفيتش أثناء وجودي مع قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في البوسنة والهرسك عام 2001؛ حيث قال لي على مأدبة الغداء التي أقامها قائد القوات البوسنية بحضور سعادة السفير المصري وسعادة السفير محمد ميهوريفتش وقائد الاستخبارات البوسني المسمى بالرجل الحديدي.

فيقول سعادة السفير أن القوات الصربية كانت قد اقتربت من محور جبل إيجمان لاحتلال عاصمة البوسنة سراييفو بعد حصار دام شهرين، وقصف متواصل للمدينة؛ حتى سمي ذلك القصف بالمطر الحديدي لكثرة القذائف والنيران التي كانت تنزل يومياً على المدينة وأحياءها، وعند تحديد ليلة الاجتياح، وكان ذلك في ذروة الشتاء والثلوج تكاد تغطي كل مكان، وصلت أخبار ذلك الاجتياح إلى الرئيس البوسني علي عزت بيقوفيتش الذي خاطبني في الأردن لمقابلة جلالة الملك الحسين رحمة الله عليه لأقوم بما يناسب لوقف ذلك الاجتياح الذي سيترتب عليه سقوط عاصمةٍ إسلامية وفضائع ستلحق ذلك من قتل وتدمير واغتصاب وتشريد.

فيقول سعادة السفير: وصلني ذلك الخبر متأخراً بعد الحادية عشر ليلاً فقمت باتصالاتي لطلب مقابلة جلالة الملك الحسين فتم رفض الطلب، كون الوقت متأخر ولا يمكن إنجازه، ورغم إصراري إلا أنه تم الرفض؛ فما كان مني إلا أن ركبت سيارتي الدبلوماسية وذهبت بعد منتصف الليل بنصف ساعة إلى قصر جلالة الملك الحسين وأقف على بابه، وأطلب من الحرس أن هناك أمر جلل ولن أتحرك من مكاني إذا لم أقابل الحسين؛ وبعد انتظار خمسٍ وعشرين دقيقة يأتي الرد بالسماح لي بالدخول ومقابلة جلالة الملك قرابة الساعة الواحدة فجراً، حيث أخبرته وأنا أبكي رسالة الرئيس علي عزت بيقوفيتش وأن الجيش الصربي سيجتاح بعد سويعات سراييفو ولن يرحم أهلها ولا حتى الطير والحجر.

ويواصل سعادة السفير حديثه لي ويقول: أن جلالة الملك الحسين قد بدأ يهدي من روعي وبدأ يطلب رؤساء الدول الدائمة في مجلس الأمن ويتحدث معهم أمامي؛ ويقسم سعادة السفير بالله بأنه تكلم مع الرئيس الروسي والرئيس الأمريكي ورئيسة الوزراء البريطانية والرئيس الفرنسي والرئيس الصيني، في حين كانت جلالة الملكة نور تتحدث مع زوجات هؤلاء الزعماء ويشرحون مخاطر الاجتياح وتأثيراته، وأقسم بالله لي أيضاً أنه سمع جلالة الملك الحسين يقول ( أنه إذا لم يتم وقف الاجتياح قبل الفجر تعرفون أني هاشمي وأنتسب للرسول محمد رسول الإسلام فإني سأدعو كل المسلمين في العالم لنصرة البوسنة والهرسك في حربها؛ ثم يضيف بأن جلالة الملك أنهى مكالماته في ما يقارب الرابعة فجراً بعد أن تأكد من الموافقة على وقف الاجتياح، بعدها قمت محاولاً تقبيل يد جلالته فرفض وطلب مني طمأنه الرئيس علي عزت بيقوفيتش بالأخبار؛ والحمد لله لم يحدث الاجتياح ومنذ تلك الليلة بدأت مشكلة البوسنة والهرسك تأخذ طريقها للحل.

مثل هذه القصص والروايات الصادقة لا بد أن نعرضها ونحن نتفيأ ذكرى الراحل العظيم لتبقى في تاريخنا، نعتز بها ونرددها على مسامع أجيالنا لنفتخر بواقع تملأه العزة والكبرياء، وبواقع يُكتب بماء الذهب، فيمحو بؤس الحاضر الذي يُمارس علينا من أعداء أمتنا وثعالبها؛ سائلين الله في عليائه أن يرحم الحسين وأن يسبغ على عميدنا عبدالله الثاني المعظم شأبيب العز والعافية والنصر وأن يحفظ الأردن وجيشه المظفر وشعبه العظيم إنه نعم المولى ونعم النصير.

مدار الساعة ـ نشر في 2017/11/16 الساعة 20:15