الثقافة العربية، ثقافة أم ثقافة محاكمة ؟
الساعة -
الثقافة العربية ” ثقافة محاكمة ، ثقافة تموضع الآخر في قاعة للتدريس ، في محكمة، في سجن بهدف التأديب والمحاكمة ” ” وإن كل جدل .. قد يتحول صاحبه المخالف منفي ومطرود ومطارد ،والآخر هو الجحيم كما يقول سارتر ” وهنا لا بد للوقوف عند ثلاثة نماذج هي :” ادوارد سعيد وتهمة العمالة لقوى أجنبية ، وعند أنور عبد الملك المتهم بالتهمة نفسها وعند محمد عابد الجابري بوصفه الممثل الجديد للاستغراب الشرقي .. ” مشيرا إلى أن مهدي عامل كان يكتب في مجلة الكرمل الفلسطينية عن ادوارد سعيد أن : ” منطق سعيد ، هو منطق التأويل الذي يستبدل التناقض المادي في حركة التاريخ الموضوعية بتناقض شكلي في صيغة أما .. وإما ” ويعلن مهدي عامل تضامنه مع صادق جلال العظم في “تكفير وتخوين ادوارد سعيد”.
والاجتهاد في تحليل خطاب سعيد اجتهاد لصالح العلم والمعرفة والحقيقة، على أن هذا الاجتهاد لا يجيز لصاحبه التنديد بالآخر وتكفيره وتخوينه. إيماناً بان هذا الأسلوب يعد أسلوباً إرهابياً وقمعياً للرأي الآخر.
” الاختلاف مطلوب ، فهو إغناء لواقع نريده هكذا ، أما القراءة التي تقود إلى الخلاف , وتؤول إلى أحضان العقلية التآمرية ، وتستمد وجودها من إرادة نفي تتحكم فيها ، فهي بدورها تدمير لواقع وطموح ، أنها نظرة أحادية وحدية تقطع بسيفها كل أشكال التباين والاختلاف وتحيلنا على ساحة من المواجهة بين من أملنا فيهم خيراً “.
ولكن ومن خلال المتابعة للحركة النقدية العربية منذ التسعينات كونها: نزعة خفية وعلنية تهدف إلى محاكمة المثقف العربي والحجر عليه وتضميخ نصب الخطاب العربي المعاصر بدمه ” نزعة تدميرية في خطابنا النقدي المعاصر .
” المثقف الثوري العربي قد مل الركض من حول الغاية فراح يطالب بحرقها ” ذلك أن من يطالب ب (الموت) و (حرق الغابة ) هو جزء ، أو نتاج لهذا المجتمع ، ولهذه الغابة وليس بوسعه الانسلاخ عنه ، لأنه إذا فعل هذا وقطع جذره ، صار هجيناً وعرضة للسقوط والانهيار مع هبة أول ريح تواجهه.
وإذا كانت : “صورة هتلر وإلى حد كبير بسمارك ، ظلت تغذي لدى المثقف العربي القومي والأمير معاً ميلاً إلى ممارسة دور وإلى جعله نموذجاً يحتذى ” فأن مثل هذه الصورة ينبغي أن تأخذ شكلاً وفهماً ووعياً وموقفاً آخر .. ذلك أن صورة الماضي الدامية، كانت مضادة لكل ما هو أنساني وسلمي…
أن تكل الصورة تشير إلى : ” عنف الخطاب العربي ولا معقوليته ، عن فقرة النظري بتبعيته المطلقة للنموذج السلف ، عن أساسه الهش الذي يجعله يتحطم على صخرة الواقع كزجاج رديء ، عن انفعاليته وغضبه الجامع الذي يدفعه في لحظة غضب إلى نفي الآخر وتشريده وتذويبه ، عن نظرته الدونية لآخرين أصيبوا لاحقاً بالعدوى منه ” وتظهر هذه الصورة جلية في رأي عبد الله العلايلي : ” كل تجمع ملي أو عنصري يعتبر جريمة قومية..”. فهل يمكن أن نعد مثل هذه القناعات إلا مظهراً من مظاهر الغل والتعسف والإرهاب ؟ وإذا انتقلنا إلى فهمي جدعان بقوله : ” إن العقل ليس هو سيد الأحكام ، وانه ليس أكثر من آلة أو أداة فحسب ، وهو أداة ابستمولوجية في أفضل حالاته يمكن استخدامها للخير أو الشر على السواء ، أضف إلى ذلك أن العقلانية لا تجسد إلا مطلباً ، واحداً من مطالب الكينونة البشرية وتمثل في الحاجة الطبيعية إلى المعرفة الموضوعية المستندة إلى أحكام العقل الموضوعي حيناً وإلى متطلبات وضغوط العقل ألذرائعي حيناً آخر”.
وإذا ناقشنا هذه الرأي، نرى أن فهمي جدعان يضع الخير والشر في ميزان العدل ! العقل الموضوعي مقابل العقل الذرائعي ، وأن العقل أداة معرفية فحسب ! إن الاحتكام إلى العقل ، يعني الاعتماد على دقته وسلامته وصوابه لما يمتلكه من قيمة معرفية تستطيع أن تفرق بين الخير والشر ..
الشر احتكام إلى المعطى السلبي، والاستناد ألتدميري والزائف والقمعي، أما الخير والموضوعية والسلم فهم اعتماد على العنصر المشع والنبيل والحي في الإنسان السوي الراجح العقل. لذلك لا يمكن وضع كلا العاملين في منطقة واحدة لموازين العقل والتسليم إلى الهوى والعاطفة والرغبة العاجلة في آن واحد معاً.
وإذا ما جاز الإشارة لما كتبه ريجيس دوبريه في نقده للعقل السياسي “مشبهاً السياسي المعاصر بالساحر ، فالساحر بقدرته العجيبة على امتلاك الكلام يسيطر على الأشياء ويوجهها ، وهكذا الفعل السياسي الذي يمتلك القدرة على تحريك الجماهير والسيطرة عليها من خلال امتلاكه الكلمة أو وهم امتلاكه إياها ويذهب دوبريه إلى أن سحر القول في الساسة يدعو إلى التفكير السحري في الأمر السياسي ، وليس هناك في هذا الصدد من انفصال بين السحر والدين والأيديولوجيا” ومعلوم أن السحر إيهام ، سقوط في الوهم ، وليس قناعة عقلية . بينما السياسة مران في اتخاذ المواقف وقناعة ذهنية يصل إليها المرء بعد إدراكه لفحواها .. وإذا ما تحول السياسي إلى ساحر، تحول في الوقت نفسه إلى محتال، إلى خداع من طراز خاص.. ومن ثم تصبح السياسة وهماً وجنة مضاعفة وصور مغيبة !
ومن هنا نرى أن الخطاب الجماهيري وخطاب معظم الساسة السياسي العربي يمكن وصفه (بالضحالة ) وأنه خطاب ( غير صريح ) أو أن هذا الخطاب يعتمد (التعميم والابتعاد عن الواقع ) كما يصفه آلن غولد شليغر في (سيميا الخطاب السلطوي) وأن ” العلاقة بين المخاطب والمخاطب هي علاقة أمر ونهي ، والجواب المقبول والوحيد هو الامتثال والقبول ” أن دواعي أو دوافع مثل هذا الخطاب يمكن في الإلزامية الحتمية التي تشكل جوهره . وهو في هذه الإلزامية يظل خطاباً ساكناً تحكمه والنصية الثابتة التي ترفض التأويل والاجتهاد في صياغة معانِ جديدة ومواكبة على وفق طبيعة العصر. من هنا كان مثل هذا الخطاب الأحادي يمارس صيغته التعسفية ضد كل من يختلفون معه أو يضعون أو يرسمون لرؤية أخرى.
هذه الأحادية في كل خطاب مهما كان مصدره، يمارس إرهابه على الخطاب الآخر، بمعنى أنه يريد تصفيته ليحتفظ بنفسه دون سواه، وهو ما تمارس عقلية الإرهاب الأمريكي الراهن، الذي واجه الإرهاب للسبب نفسه.
تعريف الإرهاب السياسي أو العنف السياسي أو العنف السياسي بأنه : ” منهج نزاع عنيف يرمي الفاعل بمقتضاه وبواسطة الرهبة الناجمة عن العنف إلى تغليب رأيه السياسي أو إلى فرض سيطرته على المجتمع أو الدولة من أجل الحفاظ على علاقات اجتماعية عامة أو من أجل تغيرها أو تدميرها ” – كما أشار إلى ذلك آلن غولد شليغر –
والواقع أن أي نزاع يمارس العنف من شأنه تمزيق العلاقات الاجتماعية بدلاً من توحيدها فالمجتمع – أي مجتمع – لا تبنى علاقاته إلا في ظروف مؤاتية ومصالح متوافقة ومدركة وسليمة ومقبولة من قبل الجميع .
أن مجتمع العنف والإرهاب هو مجتمع التمزق والانقسام والتشرذم .. بينما مجتمع الاستقرار هو مجتمع تتفاعل فيه الآراء كافة وتشترك في بناء وجوده كل القوى بوصفها تنتمي إلى سيادة وطن موحد.
وإذا كان علي حرب يعتقد أن: ” مشكلة المثقفين هي من أفكارهم، فهم ضحايا أفكارهم أو أنماطهم في التفكير، وهذا ما يجعلهم في كثير من الأحيان باعة أوهام وحراساً لأفكار عتيقة وبالية..”.
المثقفون الجادون والمخلصون في إيصال رسالتهم الإنسانية ، يحرصون بالتأكيد على نشر آرائهم ، مثلما يصغون إلى الآراء الأخرى . هذا التفاعل في الآراء هو الذي يشيع في الناس لغة الحوار والتفاهم والتكامل.. بعيداً عن الإلزام والإكراه وممارسة أسباب التعسف والإرهاب في فرض هذا الرأي أو ذلك.
ومن هنا نرى أن مشكلة الجماهير العربية ، كونها تحاكم نفسها أكثر مما تحتكم إلى الآراء الواردة في كل رأي إن كان عبر وسائل الإعلام أو المدونات أو بأي طريقة أخرى تصلها هذه الآراء من خلالها ، وإلى أين هي صور الإرهاب في إلزام عدد من المفكرين العرب في تبني وجهة نظر وهمية ، أو معاداة مفكر مثل جومسكي في أمريكا لمجرد أنه لا يتطابق مع السياسة الأمريكية أو نفي وطرد وسجن وقتل عشرات الأبرياء في كل مكان لا لسبب ، إلا لأنهم يملكون رؤوساً يفكرون بها، ويرفضون أن يفكر الآخرون نيابة عنهم..؟
وان هذا: يدفعها إلى وصفها بأنها ثقافة محاكمة وإرهاب فكري يتزين بزي الحداثة ليضفي على إرهابه مزيداً من المشروعية والتبرير .
ومهما كانت هذه الاختلافات ساخنة، أو في حالة تقاطع كل مع الآخر، فإنها لم تكن بأي حال من الأحوال.. إرهابية، وليس من المنطق أن نعد كل اختلاف من الآخر، محاولة لإرهابه والضغط عليه وممارسة العنف الخفي أو المعلن ضده. نعم .. لقد مورست عمليات العنف ضد المناوئين للأفكار القائمة في كل بلدان العالم وفي كل الأزمنة، وهي مؤرخة ومعلومة وعلينا أن لا نهمل الإشارة إليها كلياً، وأن لا نشير إلى المناقشات والردود واختلاف الآراء..على أنها ممارسات إرهابية!.