الحسين في ذكراه شديدة الحضور !
محمد داودية
تحل علينا اليوم الذكرى 82 لميلاد الملك الحسين، اغلى الرجال واعظم القادة، الذي بنى الاردن سبيكة من الفولاذ المسقي ووطنا للكرامة والكبرياء والعزة.
رأیته مهـموما متعبا عدة مرات، و ما ان یحضر طفل ٌ او یطلبه طفل من احفاده، حتى یشع وجهـه بالفرح ویفیض صوته بالحنان. وعندما كنا نأتي على سیرة الشباب امامه، او یتحدث عنهـم، كان یختم دائما بالقول: هـم مستقبلنا.
اتصلت بي ام عمر هـاتفیا وكان صوتهـا یتفجر فزعا.
قالت: ابننا عمر زي النار. تعال بسرعة نحمله الى المستشفى.
كان عمر طفلا في السادسة من عمره، ولكنه في السادسة عشرة، شقاوة ونشاطا وحركة وصخبا. كان إعصارا.
سألتهـا: ماذا بلع الولد؟ ماذا وخزه؟ ماذا قرصه؟
قالت: لا شيء. واضافت: لا اعرف سببا لسخونته المفرطة المفاجئة هـذه. وأكملت متوسلة: مشان الله اترك كل شيء بیدك وتعال.
كنا في مطلع ایلول 1992 وكنت في مكتبي حیث اعمل «مدیر الاعلام والعلاقات العامة للدیوان الملكي».
قلت لماجدة: سأتصل مع الدكتور یوسف باشا القسوس وسیكون الأطباء في انتظارك. تحركي فورا الى المدینة الطبیة وسوف اوافیك الیهـا بسرعة.
اتصلت مع صدیقي الدكتور یوسف. قال لي: لا تهـتم، سارتب كل شيء.
توجهـت الى مكتب الدكتور خالد الكركي رئیس الدیوان الملكي وابلغته بالطارىء وغادرت متوجهـا الى المدینة الطبیة.
على باب الدیوان الملكي ضرب «الطنان- البیجر» المعلق بحزامي فاذا به من ام عمر. اتصلت بهـا من كشك الحراسة فأبلغتني ان الحرارة قد زالت كلیا عن عمر وانهـا رجعت الى البیت قبل ان تصل الى المدینة الطبیة.
وأضافت: هـیو بنطنط زي العفاریت، خرعني وقطع قلبي.
توجهـت الى منزلي فاذا بالاعصار قد استرد طاقته وشقاوته.
اتصلت مع الدكتور القسوس وشكرته وطلبت تفسیرا لحالة عمر فقال: لیس عندي تفسیر عن بعد، هـاتلي إیاه أقلّبه.
اتصل بي الدكتور الكركي وقال: محمد، سیدنا سأل عن عمر وهـو یقول لك انقله الى أي مستشفى في الداخل او الخارج دون تلكؤ.
طمأنته وأوضحت له ما جرى.
في الیوم التالي كنت في المكتب الواسع الذي یجمعني بالزملاء علي الفزاع وحسین بني هـاني وامجد العضایلة وانا منصرف الى قراءة مقالة تهـتك استار الأردن وتسب قیادته لكاتب عربي مرتزق.
قلت للزملاء: یجب ان اؤجل عرض هـذه المقالة الصهـیونیة على الملك. مش لازم نعكر مزاجه على الریق.
ّ
كان الملك الجلیل فوق رأسي فقال: سبقتكم. قرأتهـا ولم تسم بدني. ثم أضاف: محمد، طمني على عمر، كیف عمر؟
قلت للملك الجلیل: سیدنا. عمر بخیر والحمد لله وقد غمرتني سيدنا بتفضلكم بالسؤال عن ابني.
قال الملك: هـم مستقبلنا.
بعد ساعتین صادفت الملك في الممر وهـو في طریقه الى القیادة العامة، سألني: كیف عمر یا محمد؟ احسن؟
قلت: سیدنا والله انا نسیت عمر، الله یعینكم على هـمومكم الداخلیة والخارجیة.
ابتسم الملك الجلیل وقال: هـم مستقبلنا.
دعا الدكتور محمد عفاش العدوان رئیس التشریفات الملكیة الى الغداء مع سیدنا نحو الساعة الثالثة، وهـو الغداء الذي یحضره عادة صاحبا السمو الملكي الأمیر رعد بن زید وعلي بن نایف ورئیس الدیوان ورئیس التشریفات وناظر الخاصة الملكیة وامین عام الدیوان -وكان وقتهـا منیر الدرة- ومدیر الاعلام وكنت انا وقتذاك.
ما ان اوشك الملك الجلیل على الجلوس حتى التفت نحوي وسأل بصوته الدافي العمیق الرخیم: كیف عمر، صار احسن ان شاء الله؟
ذهـلت. كیف یتمكن هـذا الملك المشغول بآلاف القضایا والهـموم من تذكر ابني انا المواطن البسیط.
قلت: سیدنا، الله یطول عمركم، عمر الان بیوكل ایس كریم في السینما مع ابن خالته طارق.
قال الملك الجلیل جملته الشهـیرة ما غیرهـا: هـم مستقبلنا.
ملك عظیم هـو الملك الذي یحضر المستقبل في قلبه وعقله هـذا الحضور الطاغي.
الدستور