الضغوط الناعمة

مدار الساعة ـ نشر في 2017/11/12 الساعة 01:14
وسط حالة من القلق والترقب السائدة في الإقليم يستعد مجلس النواب الأردني الثامن عشر لاستئناف أعماله اليوم. بالرغم من إيمان الشارع بتواضع التأثير الذي قد يمارسه المجلس على السياسات والبرامج التي تحملها الحكومة كحلول للمشكلات المالية العامة للدولة، إلا أن الكثير من المراقبين انشغلوا برصد الجاهات والزيارات التي قام بها عدد من النواب لبيوت ومقرات زملائهم لثنيهم عن الترشح لموقع النائب الاول لرئيس المجلس. الكثير ممن علقوا على هذه الزيارات ابدوا استغرابهم وتساءلوا عن دوافع هذه الحماسة والحراك المبكر والتحشيد وحاولوا استبطان غاياته ودلالاته، مستهجنين لجوء اكثر المؤسسات الدستورية تعبيرا وتجسيدا لمبدأ حرية الارادة لمثل هذا الاسلوب عوضا عن الانتظار لحكم الصناديق، ومستغربين تجاهلها لمدى تأثير هذا التصرف على نظرة وتقييم الشارع للمؤسسة وأدائها. ممارسة المجلس ليست غريبة ولا تشكل حادثا منعزلا، ففي الثقافة العربية عادات وتقاليد وطقوس يلجأ لها الناس في اوقات ومناسبات واماكن وكيفيات معينة ويدركون معانيها ودلالاتها. بعض هذه التقاليد والطقوس والعادات تلاشت بفضل القوانين ونوعية الاقتصاد وأنماط الحياة الجديدة وغيرها من العوامل، في حين بقي بعضها الآخر موجودا ويسهم في الحفاظ على تماسك المجتمع والابقاء على سلطة الكبار والحدّ من سرعة التغير الذي قد يصيب البناء الاجتماعي ويؤثر على المكانات والأدوار التي تتمتع بها الجماعات والأفراد. على مدار التاريخ كانت "الجاهة" إحدى اهم التنظيمات الاجتماعية المؤقتة التي يشكلها المجتمع من اجل التدخل لفرض الارادة الجمعية والضغط على الافراد والجماعات التي ينذر واقعها واوضاعها باحتمال الخروج على ما هو قائم، لتكون بذلك احدى الوسائل الناعمة التي يستخدمها المجتمع لفرض إرادته على الافراد والجماعات والحفاظ على البناء والوظائف من التغيير او التبدل باي اتجاه. اليوم وبالرغم من التحولات العميقة في البنى والتنظيمات وانماط العيش والعلاقات بين الافراد ومجتمعاتهم وظهور قواعد واسس جديدة لادارة شؤون المجتمع إلا أننا ما نزال نشهد عودة لافتة وقوية لبعض العادات والتقاليد والممارسات والطقوس الرامية للضغط على حرية الافراد وتغيير قناعاتهم وخياراتهم كالجاهات التي قد تتوجه الى مكاتب المسؤولين ومراكز الشرطة والدواوين وحتى الدول.
الممارسات القديمة الجديدة تنافي وتعارض القيم والمبادئ التي يستند اليها المجتمع الحديث وتعصف بالانجازات التي حققتها جهود التحديث وكرستها المؤسسات ذات الطابع الحداثي. الجاهات التي يشكلها النواب ويوجهونها لبيوت بعضهم بعضا من اجل الضغط على إرادة زملائهم الراغبين في الترشح لمواقع المكتب الدائم الشاغرة، سلوك ينافي القواعد والاسس التي جرى اختيار النواب على اساسها، فقد جاءوا الى مواقعهم على اثر عملية انتخاب تنافسية تحكمها قواعد واصول حرصت الدولة على تطبيقها من خلال هيئة مستقلة غايتها حماية ارادة الناخب والمرشح من التأثير والتدخل. الممارسات الهادفة للضغط على الارادة الحرة لممثلي الامة لثنيهم عن الترشح والعمل الجماعي لحساب مرشح او مرشحين بعينهم تثير الكثير من التساؤلات حول مدى حرية ارادة النواب والتزام الاعضاء بالمبادئ والقيم والممارسات الديمقراطية التي تقوم عليها هذه المؤسسة وتوجه عملها. ما من شك بأن الجاهة تنظيم اجتماعي قوي وفعال ويؤدي الكثير من الوظائف والادوار التي قد تحمي المجتمع وتصلح من شؤونه في حالات الاعتداءات والجرائم والاعتذار وتطييب الخواطر. لكن استخدام الجاهة في حالة قيام المسؤول بواجبه او للاعتذار عن أعمال ترتبط بإنفاذ القانون أو لحسم السباق على مقعد نائب الرئيس في اكثر مؤسسات البلاد تعبيرا عن الارادة الشعبية وتمثيلا لها امور في غاية الغرابة. الاحتواء الناعم جائز ومقبول في الكثير من المجالات والمواقف لكنه لا يتناسب ولا يليق بمؤسسات وجدت لتحرس الدستور وتحافظ على الحقوق وتخدم الأمة. الرمزية العالية لمثل هذه المؤسسات تتطلب أن نبقي على مثاليتها مهما كانت المغريات. الغد
مدار الساعة ـ نشر في 2017/11/12 الساعة 01:14