قراءة ادبية في رسائل ورد للشاعرة عايدة تحبسم
بقلم الدكتورة رابعة العكور
الحمد لله يكافئ سوابغ نعمائه, والصلاة والسلام على خاتم رسله وأنبيائه, محمد العربي المستل من ذؤابة عدنان, الذي استخزنه ربه جوامع الفصاحة والبيان, وعلى آله مدارة العرب وفحولها, وأصحابه غرر الخلائق وحجولها, وعلى أتباعه الأخيار, صلاة باقية بقاء الليل والنهار.
إن هذه الورقة تطوافية سريعة, ضمن رؤية تتمثلها أغلب الشهادات الإبداعية فتارة نخوض في بنود التخصص النقدي وإن كان لزاما علي تركه للمتخصصين ولا شك أن د. عماد الضمور سيتصدى لهذا الأمر.
وتارة هي تسبح في شرك الابداع الذي يحظى به المتلقي ضمن التشاركية التي تفرضها علاقتي اللفظ والموسيقى وسطوة المعنى من حيث إن العربي بطبعه ذواقة للشعر والكلمة.
من المعلوم أنّ للطبيعة انعكاسَها الفني على وجدان الشاعر وأحاسيسه، وقد ظهر هذا الأمر جليًا في العصر الأندلسي، حتى وصل إلينا من شعراء العصر الحديث فقد استمر تسخير جماليات الأزهار والورود في الشعر لا سيما حينما انتشرت النزعة الرومانسية عند جماعة أبولو، والشابي وغيرهم من المحدَثين ..
وينسحب الأمر هنا على ديوان (رسائل الورد ) حين اختارت صاحبة الديوان أن يكون هذا الورد عنوانا لكتابها، بكل ما يحمل من انزياحات دلالية اتكأت عليها الشاعرة في أغلب قصائدها ؛ إن الانزياح يحدث بين الدرجة 0 والدرجة 100 وهذا يعني ان قمة الانزياح تحدث في الشعر الذي يعتمد الكثافة والغموض الشعري والصور المتخيلة التي تبتعد عن الصور الواقعية مثل الشعر الرمزي أو المدرسة الرمزية في الشعر و الرسم مثلا اي الدرجة مائة في التعبير باللغة
ومعنى أن تعتمد صاحبةُ الديوان على الانزياح في قصائدها أي أنها اخترقت القواعد المعهودة بطريقة فنية مقبولة ويستمتع بها المتلقي . كأن تقول في ديوانها:
نجمة الصباح تطرق نافذتي
وتغني الأرض أهزوجة الفجر
فتغازل الفجر أوراق الورد
إذن نرى هذه المقطوعة قد منحت النص الشعري شيئا من البعد عن اللغة السردية مما يعطي النص شيئا من النضارة والابتكار والجدة في الأسلوب .
وفي قصيدة عذابات عشق نرى أن صاحبة الديوان جعلت من العشق أسلوب عقابٍ للمحبوب ولكن هذا العقاب يستأنس به المتلقي فهي خرجت بذلك عن المألوف فتقول:
يقرعُ نبضك أبواب قلبي
فأعلن عليكَ لهفتي
وتتوالى عليك عذابات عشقي
ونرى أيضا أنها جعلت لقلبها أبوابًا عديدة لا يدخلها إلا شخص واحدٌ تمارس عليه طقوس العاشق المعذِّب .
وأما عن الزمن في لغة الشاعرة فنجد أنّ ديوانها قائمٌ على الفعل المضارع بكثرة نحو: " يتوضأ، تنادي،يشعل،يزرع،يشارك، يبقى ... ألخ. من الأفعال المضارعة تلك التي تحمل دفقات اللحظة الآنية الحالية في سياق الجملة الفعلية وهذه اللحظة الآنية تمثل اللحظة الشعورية النابعة من كوامن الشاعرة.فالفعل المضارع المتولد في مهد السياق التركيبي العام نشّط فاعلية الدلالة وخلق لها الاستمرارية المنشودة لدلالته على إحساس الشاعر في كل لحظة ووقت .
وهذا الفاعلية تنتقل بالمتلقي (المستمع أو القارئ) إلى حالة تشويقيّة تشاركيّة، بحيث تجعله لا يملّ حينما يجد أنّ عطاء الحب والمشاركة والانتظار وجميع الحالات التي تمر بها الشاعرة قد انتقلت إليه باستمرارية الفعل المضارع .
أما الضمائر فقد ارتكزت في أغلب قصائدها على ضمير ( الأنا) المتكلم بما يحمل هذه الضمير أو غيره من الضمائر من سيمائية ذات أبعاد دلالية مكثفة، ذلك أنّ الحروف والألفاظ تمثّل هويّة دلالية تجسّد أحاسيس وأفكارا وسلوكات مسبّقة ومحايثة لذاكرتها قبل توظيفها في النصّ ، فالكلمة بشكلها ومقاطعها الصوتية تساهم في صنع المعنى وتخلقه صورا تنبش أخرى ، وتشدّنا إلى ما لم تلامسه الكلمات. فالكلمة بحروفها هي ماض مكتمل وحياة مازالت تتخلّق في رحم الكتابة .وإنّ المعاني التي تطرحها الألفاظ تساعد الدلالة على مغادرة جسدها لتتوحّد في الآخر أو في الأشياء الكونية الأخر.
وإذا كانت الحروف ذواتاً حسب تعبير ابن عربي عنها ،فقد اعتمدت ضميرَ المتكلّم " أنا " وقدّمت قراءة لهذا الضمير مركّزةً على ماهيته وصفاته، وإظهارها علاماتٍ سيميائيةً تسمح ببناء التأويل. إذ حاولت في هذه القراءة - ضرورةً - الإفراج عن الخيال والإنصات إلى الذات وإلى الضمير المعبّر عنها من خلال العلاقة بين الحرف خطّا والمعنى من جهة ، وبين الشكل والمحتوى من جهة أخرى.
كما كنتُ أبحث عن ترحال الحروف ومتاهاتها في الأجساد والهويات ، إنّ حيويّة الكلمة نابع من استعمالها المتعدّد والمختلف ، وما حروفها ومقاطعها الصوتية إلاّ بنيات صغرى مؤثّثة لدلالاتها على شكل قطع فسيفسائية تسهمُ في خلق تنوّع المعنى وحركيته في النص، هذه الحركية المتصلة بمرجعيتها الثقافية والحضارية على مستوى البناء والدلالة.
وفي هذا السياق ، أستدلّ بضمير المتكلّم " أنا " وأتوقّف عند مختلف العناصر والمكونات التي ترسم هذا " الضمير " شكله ، طبيعته ، كما نرسم أفق المتخيّل وخصوصيته الفكرية في جعل هذا الضمير على الصورة التي نعرفها.
فألف المدّ التي ينتهي بها الضمير " أنا" يترافق نطقها مع رفع الرأس المصاحب لحسّ الشموخ الذي يملأ وجدان الإنسان العربي الأوّل الذي أنتج اللغة ويتماشى مع رغبته في الاستعلاء على الآخر الذي ينتهي ضميره المخاطب بالتاء المكتومة التي لابدّ من تحريكها ليظهر صوتها فاستتبعت بالفتحة التي تساوي نصف ألف في " أنت" مما يعني إبقاء الآخر في حالة أدنى من حالة الأنا، فالأنا الذي يستعمل اللغة التي أنتجها ، يستكثر على الآخر " الأنت" مدّا صوتيا كاملا ، فيجود عليه بمجرّد فتحة أو بنصف صوت الألف ، وربما ربعها ويبلغ الاستعلاء أضعافه عند مخاطبة الأخرى التي تتضاعف آخريّتها لأنها آخر ومن جنس آخر ، فينتهي ضميرها " أنت" بتاء مكتومة ."
والملاحظ أن كتابة السمات والملامح لضمير المتكلّم " أنا " الماثل أمام العين مازالت محتفظة بجلالها وعنفوانها وزهوها واستعلائها على الآخر .
خبأت حلمي.. وأخفيتُ عشقي
انتظرتُ الشمس لتشرق
وبنص " آهات وأغنيات"
بالرحيل
أحل أمتعتي
حقائبي
ممتلئة بالذكريات
بالأوراق
والصور
فرقٌ بيني وبينك
حبك لا يكفيني
تناديني لهفتي
وتخنقني آهاتي
• وأما الموسيقى الشعرية في الديوان : والتي تعني مراعاة التَّناسب في أبيات القصيدة بين الإيقاع والوزن، بحيث تتساوى الأبيات في عدد المتحركات والسواكن المتوالية، مساواة تحقق في القصيدة ما عرف بوحدة النغم. وهذه الموسيقى اتخذت معايير متعدّدة. منها مايتَّصل بعروض الشعر وميزانه، ومنها مايتصل بقافيته ورويّه، وهذا يحقّق إيقاع الشعر وموسيقاه. فما من شك أن الشاعرة كغيرها من شعراء الوطن العربي ، تعيش حالة من القلق النفسي ، والغربة والضياع الذي يفجّر في دواخلها هذه الثورة وذلك التمرد ، تمرد على كل شيء ، حتى على قلمها الذي هو الوسيلة التي تحفر بها ما تنبجس عنها أحاسيسها ومشاعرها.
وقد انعكست هذه الحالة من خلال موسيقى الشعر الداخلية والإيقاع والتناغم بين تفعليات القصيدة الواحدة فنجد أن القصيدة تحوي تفعيلات مختلفة فأحيانا تكون ساكنة وأحيانا تحضر متحركةً. كما في نصّ : استغاثة
تدوي الأصواتُ
تتعالى
صوتُ الحزنِ
رهبةُ الموتِ
أنينٌ .. ألمٌ..ظلمٌ
يدق ناقوس الخطرِ
إذ نلحظ بهذه الأشطر التي بين أيدينا تعدد التفعيلات واضطرابها؛ وذلك لأن موضوع القصيدة يحمل معاناة الموت وخطره ويحفل بأصوات الاستغاثة لحال الأمة وهي تخاطب الضمير العربي، لذلك كانت التفعيلات ما بين ارتفاع وهبوط .فهي تعكس حالة الخوف التي تعتريها حال هذه الأمة وتنقلها للمتلقي وفق هذه التفعيلات المضطربة .
• دلالة الحب في رسائل الورد :
• وتاريخ الحب عند صاحبة هذه الرسائل كان كلُّه نظرةً أخذت تنمو وبقيت تنمو..... وهو حبٌ قد كان من نمائه وجماله وطهره كأنما أزهرت به روضةٌ من الرياض لا امرأةٌ من النساء, وكان من مساغه وحلاوته ولذاته البريئة كأنما أثمرت به شجرةٌ خضراء تعتصر الحلاوة في أثمارها أصابع النور, فأنت لا جد في فذه الرسائل معاني النساء متمثلة في امرأة تتصبى رجلا, ولكن معاني الحب والجمال متألهة في إنسانية تستوحي من إنسانية أو توحي لها.
• وما أحسب حب هذه الشاعرة قد كان في كل حوادثه إلا تأليفا من الأقدار لهذه الرسائل بمعانيها, حتى إذا كسيت المعاني ألفاظها, انبثقت كالنور وصدحت كالنغم وجاءت كإشراق الضحى لتناسم الأرواح بعبارات صافية من روح قوية فرض عليها أن تحب, فلما أحبت فرض عليها أن تتألم, فلما ألم فرض عليها أن تعبر؛ فلما عبرت فرض عليها أن تسلو ........
• تقولين في رسالتك أيتها العزيزة.......
يتوضأ الحب
في محراب العشق
وتطل الشمس من برجها العالي
تنادي علي وعليك
كما نجد أن الشاعرة استخدمت الوضوء دلالة على طهر الحب وأنه شيء يستحق التقديس والتمسك به والتبتل من أجله.
أما والله يا عزيزتي إن كلامك بيان كإشراق الضحى, فلا تخط أناملك سطرا إلا تضوأت فيه الحياة, ولا أقرأ لك لفظا تكتبينه إلا بمعنى منه ومعنى منك.
كنت أعرف أن اللغة موضوعة لكل أهلها, شائعة في ألسنتهم جميعا, وقد خلقت من قبل أن يخلقوا, وتركها الأول للآخر.
ولكن بلاغتك جاءت مفننة ناعمة كأنها جسيم بديع ناضج للحب قد جعلتني أعرف أن الكلمة التي يلقيها حبيب إلى محبه تأتي وكأنها لغة مخلوقة لساعتها, إذ ينتزع منها الحب صورا لا يراها في مثلها من كلام الناس, ويصيب لها في نفس معاني لا تكون إلا في ذات نفسها. إن الكلام في نفسه وسيلة من وسائل الفهم, فهو لغة, ولكنه في الحب وسيلة الجذب, فهو قوة , واللغة من بعض أدوات الحياة : أما لغة الحب خاصة فالحياة من بعض أدواها.
وأما قبل... فقد رأيت عندك الفجر وأخذت منه نهارا أحمله في روحي لا يظلم أبدا.
وخالطت عندك الربيع, وانتزعت منه حديقة خالدة النضرة في نفسي لا تذبل أبدا !
وجالست عندك الشباب, وترك في قلبي من لحظاته ما لا يهرم أبدا ...
أما في قصيدة ( خطيفة) نرى أن الشاعرة تتحدث بطريقة غير مباشرة عن عادة لا زال الشركس يحتفظن بها وهي ( الخطيفة) التي يقوم بها الشب إذا أحب فتاة من شدة حبه لها حتى يتزوجها وهو لا يصل لهذا إلا إن كان مغرما ومفتونًا بها، إنها تقول:
يا أنتَ
في كل مرة
أكتب بها عن الحب
تمر بخيالي
فتسحرني ابتسامتك
ينتفض قلبي
وأخطئ بكتابة اسمك
نرى الشاعرة تحدثت عن الحب المستتر المخفي الذي لا يتطيع البعض البوح به وكان جليا ظاهرا في قصيدة ( بقايا حلم) . حقيقةً من يقرأ ديوان الشاعرة سيجد به الكثير من المشاعر والأحاسيس الخفية وسيجد الحب والوفاء الذي كدنا نفتقده الآن فالحب عندها يفيض بالعذوبة والعاطفة الجياشة والحب عند الشاعرة هو أن نحلم في وضح النهار وأن تجد الطيور الدفء في حضن السماء.
وفي نهاية جولتي في ديوان شاعرتنا نجد أنّ جوهر ديوان رسائل الورد الذي ينتمي لنمط قصيدة الشعر الحر فهو التعبير عن معاناة الشاعرة الحقيقية للواقع التي تعيشه الإنسانية المعذبة . فالقصيدة الشعرية إنما هي تجربة إنسانية مستقلة في حد ذاتها ، ولم يكن الشعر مجرد مجموعة من العواطف ، والمشاعر ، والأخيلة ، والتراكيب اللغوية فحسب ، وإنما هو إلى جانب ذلك طاقة تعبيرية تشارك في خلقها كل القدرات والإمكانيات الإنسانية مجتمعة ـ كما أن موضوعاته هي موضوعات الحياة عامة ، تلك الموضوعات التي تعبر عن لقطات عادية تتطور بالحتمية الطبيعية لتصبح كائنا عضويا يقوم بوظيفة حيوية في المجتمع . ومن أهم تلك الموضوعات ما يكشف عما في الواقع من الزيف والضلال ، ومواطن التخلف والجوع والمرض ، ودفع الناس على فعل التغيير إلى الأفضل .
وفي أعماق نفسي نَفَسي يتصاعد الشكر لك بخورا, لأنك أوحيتي إلي ما عجز دونه الآخرون أحببتها وهي بجملها فن وجمال و وحي, لأرجع وأنا بجملتي حسن وانفعال وادراك.
وأخيرا... إن صنعت اللغات كلها في فم المحب, فإن خفقة واحدة من قلبه ستجعلها كلها بلا تأثير كأنها صمت ناطق, لأن هذا القلب هو الساحل الذي تقف عنده أمواج الألفاظ بطبيعتها أو بطبيعته ولو ترامت جوانب هذا الخضم الذي يجيش الحياة....
- أضع في آخر كلماتي سطرا غير مكتوب, سطرا فيه كثير من المعاني المتكلمة من غير كلام..
مني السلامُ على من لو تصافِحُها يدُ النَّسيمِ, أحسَّت غَمْزَ آلامي
مرَّتْ على الورد في الأكمام فارتعشت أسىً, وقالت: أهذا قلبُهُ الدّامي ؟
وأبصرَتْ غصناً ظمآنَ منطرحاً فما رأت فيه إلا بعضَ أسقامي
وتسمع الطَّيرَ صدّاحاً بأيْكتهِ يشكو, فتسمع في شكواهُ أنغامي !
حقيقةُ الحبِّ فيها, ثم تُظهر لي كأنَّني عالِقٌ منها بأوهامِ
يا للعجيبة للمرآة! أنظرها ولا أراني فيها وهي قُدّامي .