الجبور يكتب: الأحزاب الدينية المسيحية في أوروبا
المخرج محمد الجبور
يقول البعض إن الأحزاب الغربية رغم أسمائها الدينية، إلا أنها ليست ذات أيديولوجيات دينية، لكن يمكنها المجاهرة وتسمية أحزابها بمصطلحات ذات بعد ديني، وهو ما لا نجده مطلقًا في الوطن العربي.
كذلك عندما يذكر حزب أنه ذو توجه كاثوليكي فإننا بالفعل نجد غير كاثوليكيين منضمين إليه في بعض الأحيان، وأنه ليس حكرًا على الكاثوليكيين دون غيرهم من الطوائف المسيحية، لكننا نلاحظ أن الحزب يعمل ضمن خطوط عامة كاثوليكية.
هذا الأمر لا نجده في كثير من دولنا العربية، فلا يجوز فيها التصريح بأن هذا الحزب قائم على أسس إسلامية، وإلا اعتبر مناهضًا للأقلية المسيحية، وذا فكر طائفي يستبعد المخالفين في الدين.
بعض المؤرخين الأوروبيين يرون أن بداية عمل الأحزاب المسيحية كانت في الميدان الاجتماعي وليس السياسي، هذا الأمر كثير الشبه بالعديد من الحركات الإسلامية في الوطن العربي التي بدأت فعليًّا في النواحي الاجتماعية، ثم مارست السياسة تدريجيًّا. الدليل على ذلك كان عبر بروز عدد من حركات الإصلاح الاجتماعي المسيحية التي هدفت لإصلاح المجتمع الأوروبي، هذ الحركات نجحت في المناطق الريفية أكثر من المناطق الحضرية، وهذا أمر يكاد يتطابق مع الحركات الإسلامية التي ترفع شعار إصلاح المجتمع في الوطن العربي
ترتكز الفلسفة الديمقراطية المسيحية على المحافظة على الأخلاق والقيم المسيحية، والأخذ ببعض الأسس في النظرية الليبرالية، وبعض الأسس الاشتراكية، وتُصَنَّف الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا ضمن أحزاب يمين الوسط، عكس نظيرتها في أمريكا اللاتينية التي تُصنّف ضمن يسار الوسط، كما أن الأحزاب المسيحية في أوروبا تختلف عن الأحزاب المحافظة اليمينية الأنجلو – سكسونية، حيث تستمد الأولى محافظتها في السياسات الاجتماعية، المتعلقة بالزواج والإجهاض، وغيرها من المبادئ الدينية المسيحية، في حين لا تستمد الثانية محافظتها من تلك المبادئ بالضرورة.
وبجانب المحافظة في القضايا الاجتماعية، تؤكد المسيحية الديمقراطية على الملكية الخاصة، وتتبنى حقوق الإنسان وفق الفهم الليبرالي، ولا تعارض إدارة الاقتصاد، وفقًا لآليات السوق الحر والتنافسية، لكنها لا تعارض تدخل الدولة المحدود في توجيه الاقتصاد، كما أنها تؤكد حقوق الفرد الأساسية، من دون أن تغفل واجب الفرد تجاه المجتمع ككل، وتعتبر العائلة نواة المجتمع، وتوليها اهتمامًا خاصًا في سياساتها الاجتماعية. كذلك، يتفق الفكر الديمقراطي المسيحي مع الاشتراكية، في قضايا العدالة الاجتماعية، ودور الدولة في محاربة الفقر.
صحيح أن هذه الأحزاب تسعى إلى تعزيز الأخلاق المسيحية في الحياة العامة، لكن هذا لم يمنع من قبولها بتشريعاتٍ، تناقض قيمها المسيحية، تأكيدًا على احترامها للديمقراطية وسيادة القانون، كاحترامهم مثلًا للذين يفضلون طرقًا أخرى للحياة الزوجية، تخالف المفهوم المسيحي للزواج.
ظهر حزب الحركة الجمهورية الشعبية المسيحي الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يكن يخطط فقط للتوفيق بين الكاثوليكية التقليدية مع العمال المعزولين، وإنما بدأ أيضًا في خلق مناخ سياسي جديد داخل فرنسا، في محاولة لتجديد الحياة السياسية والاجتماعية بعد سنوات الاحتلال.
وقد تنوع ناخبو الحزب بين رجال الأعمال، والعمال، والموظفين، والمزارعين، ونسبة كبيرة من الناخبين من النساء، ومع أن الحزب ضم في صفوفه بعض البروتستانت الفرنسيين واليهود، إلا أنه يعتبر حزبًا كاثوليكيًّا، بسبب اتخاذه موقفًا كاثوليكيًّا تقليديًّا بشأن مسائل مثل الطلاق، وتنظيم النسل
وبالنسبة لأهدافه السياسية، فإن الحزب يسعى لطرح نفسه بديلًا عن الماركسية الجماعية والفردية اليمينية المحافظة. ويهدف إلى إنهاء العداء الطويل بين الكنيسة والدولة في فرنسا، وإدخال معايير أخلاقية في الحياة العامة، ولكن بالرغم من هذا الشعور، وجد الحزب كغيره من الأحزاب الديموقراطية المسيحية بأنه من الصعب التوفيق بين هدفه من إدخال معايير أخلاقية في الحياة العامة وحاجته لتحقيق النجاح الانتخابي.
إضافة لتأييده لتأميم الصناعات الرئيسية، وتوسيع الدور الاجتماعي للدولة، وزيادة النفوذ لنقابات العمال، إلى جانب التحديث الاقتصادي والتعاون الأوروبي. أما بالنسبة لنظرته الاجتماعية، فيعتبر الأسرة أنها وحدة أساسية في المجتمع ودور الدولة هو الحامي والمنظم للأسرة والمجتمع، دون السعي لتحل محله. وحول نظرته الاقتصادية والسياسية، فيرى ضرورة توفير قدر أكبر من المساواة في توزيع الدخل، واحترام حقوق الجميع ويعارض الرأسمالية على نفس القدر لمعارضته للدولة الشمولية.
ألمانيا: حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي
ظهر الاتحاد الديموقراطي المسيحي سنة 1945 بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، حيث كانت ألمانيا مقهورة ويهيمن عليها الجوع واليأس والبؤس، ففي الوقت الذي انشغل فيه كثير من الناس من أجل الطعام والمأوى، تطلعت أقلية نشطة سياسيًّا لتأسيس مجتمع جديد يرتكز على الكرامة الإنسانية، وحرمة الفرد، والصدقة المسيحية، وحقوق الإنسان، والديموقراطية. حيث كانت المثل الديموقراطية يتم الوعظ بها من على منابر الكنائس والكراسي الأكاديمية من قبل الرجال الذين شعروا بأنهم لم يفعلوا شيئًا لمقاومة صعود النازية أو الحد من صعودها بالنسبة لنظرة الحزب الاجتماعية فهو يؤمن بالديموقراطية، حيث أكد على بناء نظام اجتماعي جديد يقوم على احترام حقوق الفرد، ودعا للاعتراف بالأسرة بوصفها وحدة اجتماعية حيوية، ودعم حقوق النساء والأطفال، وحق الآباء في اتخاذ قرار بشأن تعليم أبنائهم. وبالنسبة لرؤيته للمسائل الاقتصادية والسياسية فقد شهدت مرحلتين في المرحلة الأولى:
اهتم الحزب بدعم التأميم، وتحديدًا بالنسبة لبعض الصناعات الأساسية، ودعا لإلغاء التكتلات الاحتكارية والرقابة الحكومية الفعالة للاقتصاد
ورفض العودة للممارسات الرأسمالية التي كانت سائدة قبل الحرب، وفي المرحلة الثانية: شهد الحزب تحولًا نحو الاقتصاد الحر بسبب طغيان أنصار الرأسمالية في الحزب، فقد تشكل حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي من كل من حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي، وبذلك أصبح تجمعًا يضم الليبراليين والاشتراكيين والكاثوليك والبروتستانت والعمال وأرباب العمل فأصبح حركة ذات برنامج مطاط يتسع لأكبر عدد من الأعضاء، ونجح الحزب بالتخلص من التزمت الأيديولوجي
وتمتع بنسبة عالية من أصوات المزارعين والنساء، ونظر بأهمية لأصوات النساء نظرًا لكثرة النساء بالنسبة لسكان ألمانيا بعد الحرب العالمية. كما أن الحزب بذل جهودًا ترمي إلى كسر العداوات الطبقية فجذب شريحة كبيرة من المجتمع الألماني. ومن أهم إنجازاته الملحوظة: أنه استطاع إيجاد طريقة للتعايش السياسي بين الكنائس المسيحية
يتكرر الحديث دائمًا في الدول العربية حول القوانين المتعلقة بإنشاء أحزاب ذات مرجعية دينية، وإذا كان أغلبها غير قادر على العمل بشكل مرخص له، فإن عددًا من تلك الأحزاب حصلت على الاعتراف، لكن بتقديم بعض التنازلات المتعلقة بعدم الإعلان مطلقًا عن أفكارها الدينية، وخلو اسمها من أي رمز ديني
لكن ماذا عن الأحزاب ذات المرجعية الدينية في أوروبا والدول الغربية بشكل عام؟