توفيق النّمري في ذِكْراهُ السّادسة

مدار الساعة ـ نشر في 2017/10/05 الساعة 10:24
يُعْـتَبرُ الفَنُّ، عَلى تَعَدُّدِ أشْكَالِه، واحِداً مِنْ أبْرَزِ مُكَوِّناتِ الْهُوِيـّةِ الثّقَافيّةِ لأيِّ شَعْبٍ مِن الشُّعُوب. ولعلّ ذلكَ راجعٌ إلى أنّ وَسَائلَ التّعْبيرِ الفَنـّيِّ إنّمَا تَسْتَقي مِنْ رُوح الشّعْبِ ، وأخْلاقِهِ ، وذائقتِه ، وتَمْتَاحُ مِنْ وِجْدانِهِ ، وقِـيَمِهِ الْعُليا ، وتُعَـبِّـرُ عَنْ أشْواقِهِ الرُّوحيّةِ ، والْوَطَنيّةِ ، والْقَوْميّة. ومِنْ هُنا، كانَ الْفنُّ أحدَ المَصَادرِ المُهمّةِ التي على الباحِثِ أنْ يَأخُذَها بعيْنِ الْاعتبارِ ، كَوسيلَةٍ لِفَهْمِ الواقعِ الحَضَاريِّ والثّقافيِّ لمُجتمعٍ مَا، في فترةٍ زمنيّةٍ ما.

ولأهميّةِ الفَنِّ في تشْكيلِ مَلَامِحِ هُوِيّةِ المُجتمع، وفي إثْراءِ الرُّوحِ الْجَمْعيــّةِ ، قيلَ : بِاسْتطاعَةِ الدّوْلةِ أنْ تصْنَعَ مِئاتِ الْوُزراءِ، وآلافَ الْمُديرينَ ، والْمُوظّفينَ الْكِبارِ بكُلِّ سُهولة. ولَكِنّ اللهَ وَحْدَهُ، هو الذي يسْتطيعُ أنْ يَخْلُقَ فنّاناً مُبْدعا. أقولُ هذا، وقدْ مَرّتْ، يومَ أمْسِ الأوّل ، الذّكرى السّادسَةُ لِغيابِ (توفيق النمري)، سِنْديانَةِ الفنِّ الْغِنائيِّ الأردنيّ... (توفيق النمري) الذي تغنّى بالأردنِّ ،فأطْرَبَ وأبْدع. وكتبَ ولحّنَ ،فَانْبثقَتْ مِنْ ذائقتِهِ الفنيةِ كَلماتٌ وأنْغامٌ ، مثّلتْ الرُّوحَ الأرْدنيّةَ أصْدقَ تَمْثيل ، وعَبّرتْ عَن وِجْدانِ الشّعْبِ الأردنيِّ في مسيرةِ حياتِهِ ونِضَالِهِ في معركةِ التأسيسِ، والصُّمودِ والْبناء. وهو تعبيرٌ مَا كانَ لِيكونَ ، لَوْ لمْ يَكُنْ صادراً عنْ روحٍ فنيةٍ مبدعةٍ خَلّاقةٍ ، اسْتقَتْ وارْتوتْ مِن التصاقِها بِهمومِ شعْبِها ، وآمالِهِ وآلامِهِ ، وطُموحاتهِ وأشْواقِه . ففي الثالثِ والعشرينَ من تشرينِ الأولِ من العامِ ألفينِ وأحَدَ عَشَر، وعن عُمْرٍ بلغَ أربعةً وتسعينَ عاماً ، انتقلَ إلى رحْمةِ اللهِ الفنّانُ الأردنيُّ الكبير ، وعميدُ الفنِّ الأردنيّ "توفيق النمري " الذي تغنّى بكلِّ ما هُو رائعٌ وجميلٌ ، وغنّى لكلِّ مَنْ يستحقُّ الغناءَ في هذا الوطنِ ، على امْتدادِ حِقْبَةٍ طويلةٍ من الزّمن . فقدْ غنّى (توفيق النمري) للعَسْكَرِ والجُنودِ ، رَبْعِ الكفافي الحُمْرِ ، وحُماةِ الوَطَن ... غنّى لهمْ وَهُمْ في الْخنادقِ وميادينِ التّدريب ، أو عَلى صَهَواتِ مُدَرّعَاتِهم ، وهي تَصُولُ في ميادينِ الشّرَفِ والبُطولَة . وغنّى للعُمّالِ والفَلّاحين ، وَحيّا جُمُوعَ الْحَصّادينَ في سُهولِ الوطنِ وجبالِه ، وأوصَلَ ،على أجْنحَةِ ألْحانِهِ العذْبةِ ،صوتَ تلكَ التي تُنادي : " مشْتاقْ لَكْ يا رفيق الروحْ ، لا تسافرْ وحْدَكْ وتْروح" . وتوسّلَ لأشْجارِ الزّيْزَفُونِ ؛ راجياً أنْ تُخْبرَهُ عنْ " الْمَزْيونة" التي طالَما غَفَتْ في ظِلِّها الْوارِف ؛ مُعْلناً بصوتِهِ الواضِحِ النّبـَرات : " ويْلي مَحْلاها الْبِنْتِ الرّيفيّة ،ويْلي مَحْلاها " ، سواءٌ كانتْ واردةً على " بير الطّيّْ " ، أوْ صَادرةً مِنْ " نَبْعِ الْمَيْ "، أوْ غَافيَةً تَحْتَ ظِلالِ الزّيْزفون . *** وفي حَضْرَةِ العِشْقِ الجَامِح ، وجَمْرِ الشّوْقِ المُتوقِّد ، يُقِرُّ (توفيق النمري ) مُعترفاً ، بقولِه : "مَشْغُولَ الْبالْ تَرانيْ بْهَوى النّشْميّةْ ، بِنْتَ الْعُرْبانْ مَرْباها بْوَسْطَ البَرّيّةْ". كَما يـَـرْسِمُ لنا صورةً واضحةً ، لابنةِ الباديةِ الأردنية ..تلكَ النشميةِ السّمراءِ الكَحيلةِ التي نَادتْ عندما أقْبلَ الضيوفُ على بيتِ الشَّعْرِ في البادية الأردنية : " أشْعل النارْ يا النّشمي بأسْرعْ وسيلةْ
وانْدَهْ بالصّوت العاليْ رجالَ القبيلة . لا تقطعْ ،طالْ عُمرك، بديارنا العادة
حُطّ البْهارْ والعنبرْ بالقَهوةْ زيادة " . *** إنه " توفيق النمري " عاشِقُ الوطنِ ، والمُتعبّدُ في مِحْرابِ جَمَالِه ، ومَغاني ربُوعِه . لمْ يَـتْركْ جُزءاً منْ أرضِ الأردنِّ دونَ أنْ يَخُصّهُ بِمُناجاةِ عاشِقٍ ، أو تَرْويدةِ مُحِب ... غنّى داعياً الجَميعَ إلى رحْلةٍ إلى " وادي السّلط " ؛ لِنَلُمَّ أضَاميمَ الزُّهور ، ولِنَحْتسيَ العَذْبَ الزُّلالَ من نبعِ (الْجَادور) . وأخَذَنا ، ذاتَ يومٍ ربيعيٍ ؛ وانْحَدَرَ بنا عبْرَ طريقِ ( ناعور ) ثمّ صعِدْنا بصُحْبتهِ ، مُرتفعاتِ طريقِ (الْعَارِضَة )، متنسّمين " هوا بلادي " المُنْعِشَ العَليل . وفي لحظةٍ منْ لحَظَاتِ الوجْدِ الغَامر ، سَألناه : وما تلكَ التي بيمينِك يا أبا صالح ؟ . فقالَ بابتسامتِهِ العَذْبة : " ضَمّةْ وَرْد من جنينـتـنا ، آخُذها وأهديها مِنْ عَاشِق لمعشوق ". ثم رآيناه ،وهو يُحادِثُ إحدى عَرائسِ الفن ..أرْهَفْنا السّمْعَ ، فَإذا بِهِ يُدَنْدِنُ : لُوحي بْطَرْفِ المَنديلِ مْشَلْشَلْ بِرْباعْ ، يا أمّ رموشِ الطويلَةْ وعيونْ وساعْ . وامْتلأ القَلْبُ الوَاسعُ بالحُبِّ الكَبير ، فَهتفَ بِصوتِهِ الواضحِ وقد برّحَ به الشّوقُ ، وتوقّدَتْ في قلبِه مَواقِدُ الْغَرام : " حُبّكْ يَا زينْ جنّني ، وْخلّى ليْ عَقْلي طايـرْ " . . . وأنا – كاتِبَ هذهِ السُّطور – أعْترفُ بأنّ عَقْلي " طاير " إذا زَعَمْتُ أنّ بِمَقْدوري ، في هذا المَجال ، عَرْضَ أعْمالِ شَيْخِ الفنّانينَ الأردنيين ، و( قُـرْميّةِ ) الغِناءِ الأردنيّ (توفيق النمري). ولكنّني أكْتفي بإشاراتٍ إلى بعضِ جَوانبِ سيرتـِه. ***
ولد (توفيق النّمري) في بلْدةِ ( الْحصْن) في العام 1918 . تُوفي والدُهُ وهو ما يزالُ طِفْلاً صغيراً ، فَنشَأ بِرعَايةِ جَدّهِ، ( رزق الله المنّاع النّمري ) . ونَشَأ ( توفيق ) في هَذهِ البيئةِ الرّيفيةِ التي تُشَكّلُ مَشَاهدُ الزّرْعِ والحَصَاد، والغَرْسِ والْقِطافِ ، واسْتقاءِ المَاءِ من البئرِ والعيْن – واقِـعَاً يوميّاً فيها ، يعيشُهُ أبناءُ الحِصْنِ ، كَغيرِهم من أبناءِ الأردنّ، في تلكَ الفترةِ المُبَكّرةِ منْ تَاريخِ الوطن . وهو واقعٌ يتميّـزُ بطَابَعِ التّشَاركِ الواضِحِ في الأفْراحِ ، والمُناسَباتِ ، والتّواصلِ الإنْسانيِّ الحَميم . ومنْ هذهِ البيئةِ الْخِصْبَةِ إنْسانيّا ، نَهَلَ (توفيق) من مَعينِ الغناءِ الشّعبي ، بألْحَانِهِ وقَوالِـبِه ، فَـتَمثّلها أروعَ تَمَـثُّل ، لتلتقيَ بموهبةٍ كامنةٍ ، كانَ يُـعَـبّرُ عنها في طُفولتِه المبكِّرةِ ، بالغناءِ في " جَرّةِ الماءِ الفخّارية " حيثُ يتردّدُ صَدى الصّوتِ ، بشَكلٍ يزيدُ من نَشْوَةِ الطفلِ وإحْساسِهِ بما يُـردّد . وكأنّ هذه الجرةَ الفخّاريةَ تقومُ بدوْر جِهازِ ال (headphones ) الذي يجعلُك تسمَعُ ما تقول . *** وفي المَدْرسَةِ ، لقيَ (توفيق ) التّشْجيعَ منْ ُزمَلائِهِ وأسَاتِذتِه، فكانَ نَجْمَ المدرسَةِ في الغنَاءِ ، وتقْليدِ أصْواتِ كبارِ المُطْربينَ العَربِ في تلكَ الأيّام . ونَطْوي صَفَحَاتٍ من الزّمنِ ، لنرى ( توفيق النمري ) ، يتوجّهُ في العامِ 1949 إلى إذاعةِ رام الله ، ويُقَدِّمُ نفسَه للْمَسؤولينَ فيها ، فيقبلونَهُ مُطْرباً ، وكَاتباً لنُصوصِ الأغاني . وخلالَ عَشْرِ سَنواتٍ ، أمْضَاهَا هُناك ، أصْبحَ (توفيق النمري) مُطْرباً لَهُ اسْمُه ، وَلِفَـنِّهِ لَــوْنٌ ، و نَـكْهَةٌ و مَـذَاق . ثم نَـراهُ وقدْ انتقَلَ إلى الإذاعَةِ الأردنيّةِ في عمّانَ التي كان يَقومُ على إدارتِها بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ ، وغَيْرِ مُباشِر ، نُخْبَةُ طَيبَةٌ مِنْ رِجالاتِ الأردنِّ الذينَ آمنوا بِدَوْرِها التّـنْويريِّ والتّعبويّ كأوّلِ جَامِعَةٍ للْوطَن. وكَـثَمَرَةٍ مِنْ ثَمَراتِ الإدارةِ النّاجحَةِ للإذاعة ، تَشَكّلَ فَريقٌ من العاملينَ فيها ، كانَ ِمْن بينِهم توفيق النمري ؛ لِجَمْعِ التُّراثِ الغِنائيِّ الشّعْبيِّ والمُوسيقيّ . وطَافَ الفريقُ أرْجَاءَ الوطَن ، وعَادَ بِحَصيلةٍ وافِرةٍ من النُّصُوصِ ، والْألْحَانِ ، والقَوالبِ الغنائية . وكَانَتْ هَذهِ الْحَصيلَةُ بِمنزلَةِ الْخَميرَةِ التي تَفاعَلتْ معَ مَواهِبِ النّظْمِ والتّلْحينِ لّدى مُبْدعي الإذاعةِ في تلكَ الأيّام ، من أمْثالِ: توفيق النمري ، ورشيد زيد الكيلاني ، وجميل العاص ، وسلوى ، وسليمان المشّيني ، وطاهر عسّاف ، وإبراهيم المبيضين ،وسِواهم . وكانَ مِنْ نتيجةِ ذلكَ كُلِّهِ أنْ برزتْ الأغْنيةُ الأردنيّةُ ، بِعَفْوِيـّتِها المُحَبّـبة ، وبَسَاطَتِها الرّاقيةِ ، وألحَانِها الْـعَذْبَةِ السّائغةِ في آذانِ المُسْتمعين . وكَانَتْ ، مَعَ ذَلكَ ،أغْنيةً مُلْتَزِمَةً قَضَايا المُجتمَعِ الأردنيِّ الْتزامَاً فنيّاً ، بَعيداَ عن الفَجَاجَةِ ، والسّطْحيّةِ ، والدِّعَائيّةِ الْمُبَاشِرةِ ، ونَوايَا التّسَوُّلِ والارْتـِزَاق . ولعلّ ذلكَ مِنْ أسْرارِ نَـجَاحِ الأغنيةِ الأردنيّةِ وتَمَـيُّـزِهَا في الْخَمْسينيّاتِ ؛ وُصُولاً إلى أواخِرِ الثّمانينيّاتِ من الْقَرْنِ المَاضي . *** أنْتَجَ (توفيق النمري) - غِناءً ، وَتَلْحينَاً ، ونَظْمَاً - المِئاتِ من الأغنياتِ والْأهازيجِ التي مَا تَزالُ تَرِنُّ في الآذانِ كَأعْذَبِ ما يكونُ الرّنين ، يَسْمَعُها الأردنيّون ، فَيهيجُ بهم الشّوقُ و الْحنينُ إلى أيّامٍ خَـيْرٍ مَاضِيات . ويطيبُ لي أنْ أذْكُرَ ، هُنا ، بأنّ ( توفيق النمري ) قدْ لَحّنَ مِنْ كلماتي أغنية ( قالوا الذهب غالي ) التي غَـنّـتْها مجموعةُ دارِ الإذاعة . *** ونَظَراً للعبْقَريّةِ الفنيّةِ التي تَمَـيـّز بها (توفيق النمري) ، فقدْ اتّجَه إليهِ عددٌ من المُطربينَ والمُطْرباتِ العَرب ، فَكتبَ ولحّنَ لهم أغنياتٍ أردنيةً ، تغنّـوْا بها ، فَشَكّلتْ إضافَةً نوْعيّةً في عَالَمِ الفنّ الغنائيّ . ومِنْ هؤلاءِ سميرة توفيق ، ووديع الصافي ، كروان ، وسواهم . وكانَ (توفيق النمري) موضوعاً لِبَعْضِ الدّراساِت الأكاديميّة ، والبُحوثِ الجامعية . كما نالَ (وِسَامَ الحُسينِ للْعَطَاءِ ) من الدّرجَةِ الأولى في العام 2000 ، و (وِسَامَ الاسْتقلال) من الدّرجَةِ الثانية ، والعديدَ من الشّهاداتِ التقْديريّة . *** وبعد، ذَهبَ (توفيق النمري) جَسَداً ، بعدَ أنْ أوْغَلَ في دُروبِ الْعُمْرِ والسنين.. هلْ شَبِعَ من الْعُمْرِ ، وارْتَوى من الأيّـام ؟. لَسْتُ أدْري، ولكنّني أدري ، وأنتُمْ تَدْرون ، أنّ ( توفيق النمري ) بـَـاقٍ بيـْـنَـنَا؛لأنـّهُ مَا ( بَاقْ بينا ) ،ولهذا ، فّسَيظلُّ حيّاً في أرواحِنا ، مَادّاً ظِلالَهُ الْوارفَةَ في كُلِّ تَضاريسِ الْوِجدان ، مُـتـَجَذِّراً في الذّاكرةِ وخَوابي الرُّوح ، بِمَا قدّمَهُ لهذا الوطَنِ منْ رَوائـِعَ في عَالَمِ الفَنِّ والْإبـْداع . لِـروحِ ( توفيق النمري) الـرّحْمَة ، ولِذِكْراهُ سَلام .
  • الأردن
  • مال
  • صورة
  • ناعور
  • لحظة
مدار الساعة ـ نشر في 2017/10/05 الساعة 10:24