( بَشَر 64 جيجا )

مدار الساعة ـ نشر في 2017/09/24 الساعة 22:30

أ.محمد سلامه
يجري على الإنسانِ ما يجري على الهواتِفِ المحمولة ِمن تَطوُّرٍ في أنظمتِها وركاكةٍ في خاماتِها مع تقدم الزمن، فالإنسان الحديث مقارنة بالإنسان القديم أكثر حملاً للشهادات الورقية ، وأكثر علما بما يحيط به من أخبار ؛ فأصبحت عيون البشر تتجول في أنحاء العالم تترصد كل جديد ، وأصبحت الذاكرة أوسع بما يلقى فيها من مهملات ومخلفات الإعلام بأنواعه ، أما الآذان فقد امتلأت رغماً عنها بالخطابات والتصريحات النارية والدموية، حتى غدت مكتبةً موسيقية مصنفةً أبجدياً من وفرةِ محتواها ، فما عليك إلا السؤال ، وستنطق الأفواه بكل ما تريد سماعه دون انتظار تحميل المحتوى ، وهذا الإنسان الحديث زادت سعة بطاريته؛ فأصبح يسهر دون كلل أو ملل ، كيف لا وقد أصبح هو وهاتفه شريكين في المواصفات والعقيدة!

أما إن حللنا الخامة الركيكة لهذا الإنسان الحديث ، فهو إنسان هَشٌّ تهزه توافه الأحداث ، غِرٌّ مُتسرعٌ في إطلاق الأحكام وتحليل البشر والحكم عليهم بمجرد موقف واحد! كيف لا وهو ضحيةٌ برمجيات هاتفه التي تقوم على ( موافق / غير موافق )!

هذا الإنسان يعيش نظاماً أوروبياً قائماً على العزلة بعد أن دَفَنَ في ( كرتونة ) هاتفه الجديد أسس ومقومات الحياة البشرية الاجتماعية وأساليب التعايش مع الآخرين، دَفَنَ الابتسامة الناصعة ، دَفَنَ القضايا العربية والإسلامية التي باتت مملةً ، دفنَ جلسات العائلة والأقارب ، وقد يكون قد دَفَنَ والديه قبل كل شيء ، وأصبح لا يرى الناس إلا حشرات وطفيليات من حوله يقتاتون على كهربائه و ( نتِّهِ )!

أخفى الدنيا وجمالها بقناع الهاتف الذكي ، الذي لا يزوده إلا بالواقع الملويِّ عنقُهُ و( الممكيج ) والمشوه.

أصبح لا يرى وجهه الشاحب الحقيقي الذي وهب نفسه لسلطان التكنولوجيا وأخذ ينظر إلى ال(كاميرا) الأمامية ليجد وجهه وَضَّاء يوسفيَّ الجمال ، وقد نسي أنه وضع خيار (فلترة) الوجه على أقصى حالة ، حيث تتحول الصخور والجبال أمام هذه (الكاميرا) إلى صحراء منبسطة ناعمة الرمال وبجانبها واحة خضراء!

تخيّل لو أن شاشتنا هي الحياة بجميع تفاصيلها ، وأن تواصلنا كان بجلسة حقيقية تتخاطب فيها العيون والإيماءات والخصائص البشرية ، تخيل لو تركنا الأخبار الساذجة التي لا تزيد في ميزاننا سوى الكدر وتقهقر الدافعية والأمل ، تخيل لو أغلقنا هواتفنا لسويعات وجلسنا نتأمل في ملكوت الله في غار الحقيقة والحياة ، صدقني سنحتاج حينها إلى من يزمِّلُنا بالدِثارِ!

مدار الساعة ـ نشر في 2017/09/24 الساعة 22:30