لطمية التاريخ العربي وحلقة الراوية

مدار الساعة ـ نشر في 2017/01/04 الساعة 12:52
* سيف الله حسين الرواشدة

منظر الدم يثير الدوار، أكان متدفقًا من ذراعك بحجة فحص طلبه طبيب، أو دفاقًا على نصل سيف قتلك بلا حرج، زوغان العين الباهتة المشوهة يرافقها الفم المفتوح واستسلامٌ غير مشروطٍ لكل عضلات الجسد، هكذا كان المستعصم بالله لما قتل ولداه وأسرن أخواته الثلاث، وقطعت رؤوس وزرائه وشعبه، ونحرت حاضرته. مكبلاً يساق كالعير، ضاقت الدنيا عليه كما ضاق صدره بكل رحب هواء بغداد، لما سلمها وقضاتها وشيوخها وأطفالها ونساءها ومقاتلتها للعدو، لما كان الجندي الواحد منهم يسوق حضيرة الرجال الى الموت، يأمرهم بالتوقف بانتظار حبل أو نصل، أي خوف قد يسلبك الإرادة كلها، وأي عقل جمعي يملي عليك الموت حيًا هكذا. تهشم صورة عالمك من حولك، قد لا يشبه شيئًا إلا تهشم عظمك وتكسره إذا مت رفسًا مثلًا، ولا يضاهي ذاك بشاعة إلا صوت وسواس النفس الذي يزين الخيانة بمراسم الملك، هذا هو عينيه الوسواس الذي يزيغ بالشيخ ليتزوج جثة طفلة. سقوط بغداد على ذمة الرواة قصة قد تبكيك او تحثك على الإنتقام أو تبعث في نفسك توبة لأن بعضنا قال أنها رد السماء على بغي العابد، لكنها بكل الأحوال قصة لاغير. الدم الذي قد يصل ركبة الخيل وركبة الفارس، وقد يأكل الطفل حيًا، وقد يحول المسجد حظيرة للدواب، ولو وقفت تشاهد حفل شواء على لحم رضيع، سيأسرك صوت النار الخبيث وهو يهس والجلد ينكمش على نفسه يحضن بعضه وفي الأزقة تتلامس الأشلاء مشتاقة لبعضها وبطن الأم المبقور يشكو أن عظام الجنين ليست ذهبًا، سقوط القدس، أيضًا قصة كسقوط بغداد، مازلنا نكررها من مئات السنين نشحذ بها الهمة ونزكي نارًا تحترق ولا تضيء. طابور الحافلات الخضر الطويل، الذي حمل الناس والذكريات والدمع وضياع البلاد والحصار البطيء البليد ذي الأربع سنين، أسمال الدمار الذي لبسته حلب، وأبجدية التهجير التي ستكتب بها حياة أهلها وآلاف القصص التي اختزلتها عشرات الصور، كلها قصص أيضًا بكل ما فيها مجردد قصص. إذا كنت تريد تاريخ أمتنا فاذهب الى حلقة الراوية واجلس هناك، في الدائرة، هو مركزها ونحن من حوله، ودعه يروي لك تاريخنا قصصًا، وكأي قصاص ستتناسب حدة صوته وبحته مع سير الأحداث، سيشحنك بكل أصناف المشاعر، متخم أنت يا عزيزي بكل ألوان العواطف، ستسمع لأمتنا ألف قصة، فألف مدينة قد سقطت، وأن أصل الحمر هي دماؤنا التي سفكت، لكنك لن تسمع منه سببًا واضحًا يجيب لماذا؟ لن يقول لك أن بغداد سقطت قبل المغول بمئة عام أو مئتين، وأن حلب هجر أهلها لما تشابكت يد الحصار البليد والإنقسام على لحن السذاجة وتقاسيم سياسة المصلحة، أن القدس يا صاحبي سقطت لما ضاعت الدولة الجامعة بين بغداد وقرطبة والقاهرة وأمسى لكل مدينة في الشام ملك. تاريخنا على طريقة سردته لن يعطيك سببًا تتعلمه حتى لايعاد تاريخ الدم والسقوط، قد يبكيك أو يشعلك غيظًا، ويزرع فيك مظلومية عظمى تجاه الآخر، لكنه لن يروي عطش لماذا؟ خلف كل سقطة، نحن لن نتعلم من تاريخنا إذا بقي نسخة من ألف ليلة وليلة. مدرسة التاريخ العربية ليست تحليلية تقدم الأسباب البعيدة وتناقش النتائج وتراكمات وتتابعات المسببات، ومازال السردة هم سدنة إرثنا الحضاري، ولهذا سقطت بغداد مرة أخرى، ولحقتها حلب، وسبقتهم القدس، والله المستعان على ما سنروي نحن من القصص لأطفالنا.
مدار الساعة ـ نشر في 2017/01/04 الساعة 12:52