اللغة.. و.. المشاعر مثال تناقضات مجتمع يكشفها
تصلح أيام الأعياد كمقاطع زمنية، يمكن من خلالها قراءة طبائع الناس وسلوكهم ومفاهيمهم وعلاقاتهم. ففي العيد يكاد يتوحد سلوك الناس انعكاساً لمفاهيمهم ولعلاقاتهم، ومن ثم يسهل كشف الحقيقي من الزائف، والأصل من التقليد في ذلك كله.
يصلح عيد الأضحى كمقطع زمني، للاستدلال به على قولي السابق، فعيد الأضحى شعيرة دينية هي امتداد لشعيرة دينية أخرى، هي الحج الأعظم، مثلما هو عيد الفطر، شعيرة دينية هي امتداد لشعيرة صوم رمضان، بل إن كلا العيدين فرحة للشعيرة التي تتبعهما، لكن المتأمل في سلوك الكثيرين منا يجد أنهم يفصلون فصلاً حاداً، بين العيد والشعيرة التي تسبقه، فكثيرون من الذين لا يصومون رمضان بغير عذر شرعي يفرحون بعيد الفطر أكثر من الذين يصومون رمضان، وهو الأمر الذي ينسحب على عيد الأضحى وهذه ممارسة تدل على ازدواجية في المعايير وتناقض في السلوك.
تناقض سلوك الكثيرين منا في العيدين، يقودنا إلى حقيقة مرة، خلاصتها أنا حولنا الكثير من عباداتنا إلى عادات، وقد رافق هذا التحول تفريغ للعبادات من مقاصدها الشرعية وأبعادها التربوية، أي من روحها، فتحولت إلى مجرد طقس اجتماعي، في نفس الوقت الذي حولنا فيه بعض عاداتنا إلى عبادات وأنزلناها منازل القدسية.
لقد كانت عملية تحويل العادات إلى عبادات، مدخلاً للكثير من التشوهات التي دخلت على فهمنا للدين، ومن ثم على سلوكنا الذي ألبسناه لباس الدين، من ذلك على سبيل المثال، الفضاضة والخشونة في أقوال وأفعال بعض من يضعون أنفسهم في منزلة العلماء والدعاة، فبعض هؤلاء تحولوا بفضاضتهم وخشونتهم، اللتان انعكستا خطاباً تحريضاً، إلى حاضنة رئيسية للفكر المتطرف، الذي أنبت القاعدة وأفراخها، وصولاً إلى داعش وما بعد داعش.
لقد نسي أصحاب القلوب الغليظة، والسلوك الخشن، قواعد الإسلام الأساسية، مثل (إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) ومثل ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) كما نسي هؤلاء تطبيقات رسول الله لهذه القواعد القرآنية، فلم يُر عليه السلام إلا مبتسماً، ولم تتفوق صفة من صفاته على صفة الرحمة، ولين العريكة، وحسن المعشر، فأين من هذه الصفات هؤلاء الذين لا نراهم إلا عابسين حتى في أيام العيد؟
إن من أبرز وأهم عيوبنا التي كشفتها أيام العيد، هو بعدنا عن معانيه، فأهم مافي العيد صدق العواطف، وحرارة التواصل، وهما معنيين استبدلناهما بمشاعر زائفة وبتواصل افتراضي، عندما استبدلنا لقاء الأحبة برسائل (الماسنجر) و (الواتساب) و رسائل الجوال النصية.
كثيرة هي مظاهر الإنهيار التي كشفت عنها ممارساتنا في العيد، والتي لم تقتصر على الجانب الاجتماعي، بل امتدت إلى مكونات شخصيتنا القومية، وأهمها اللغة العربية، فمع أن تهانينا بالعيد تكون من مرسل عربي إلى متلق عربي، وبمناسبة دينية، معجزة رسولها كتاب أنزل بلسان عربي مبين، غير أن الكثيرين منا يتبادلون التهاني، بهذه المناسبة بغير اللغة العربية، في عدوان صريح على اللغة العربية، يسهم في ترسيخ الوجود الاستعماري في حياتنا، من خلال ترسيخ وجوده في ثقافتنا ثم في وجداننا. فاللغة ليست مجرد أداة للتخاطب، لكنها أداة للتفكير، الذي يصيغ الوجدان وهي حاضنة لثقافة الأمة، ومعبرة عن هويتها الثقافية، بل إنها عنوان لوجود الأمة، حيث يؤكد علماء الاجتماع السياسي، أن الأمة لا تزول إلا بزوال لغتها، فما بال بعضنا يتحول إلى حلس من أحلاس الاستعمار، يعينه على تدمير أمتنا، من خلال تدمير لغتنا، في ممارسة تبدو بسيطة لكنها في دلالاتها وتأثيرها في غاية الخطورة خاصة أنها تكشف حجم التناقض بين ما نقول وما نفعل، وأنه مثلما فرغنا عباداتنا من مقاصدها، فقد فرغنا شعاراتنا من مضامينها، ومنها قولنا كل عام وأنتم بخير.
الرأي