لماذا تحدث الانقلابات العسكرية في غرب إفريقيا؟!
مدار الساعة ـ نشر في 2023/08/31 الساعة 19:04
إنّ من المُتعارف عليه في الدول الديموقراطية المُمأسسة أنّ واجب الجيوش هو حماية حدود الدولة من الأعداء الخارجيين، وبالتالي فهي لا تتدخل في الشأن السياسي، وتخضع للسُلطة المدنية المُنتخبة، وإذا طبقنا هذه القاعدة على بعض الدول الإفريقية في غرب إفريقيا حيث حصلت فيها انقلابات في السنوات الأخيرة (مالي، بوركينا فاسو، غينيا، النيجر، الغابون) فإنّ وثُوب العسكر على الحكم فيها يبدو أمراً مُستغرباً ومُثيراً للتساؤل.ولكن التأمل في أحوال هذه الدول لا يؤيد الطرح السابق، فهذه الدول ليست دولاً ديموقراطية مُمأسسة تطبق الديموقراطية بمفهومها الصحيح الذي يعني بكل بساطة المشاركة (Participation). إنها تطبق "شكليات الديمقراطية" ومظاهرها (انتخابات، تداول سُلطة، وضع قوانين ذات صلة ....إلخ) فقط، ولكنها لا تتيح فرصة حقيقية لمواطنيها من أجل المشاركة الحُرّة والفاعلة التي تؤدي إلى الشعور بأنّ المواطن يُسهِم حقاً في تشكيل مصير بلده، والتي تقود إلى عدالة فعلية في توزيع الموارد بحيث يشعر المواطن بأنه يأخذ نصيبه من ثروات البلاد بعدالة وإنصاف.لقد حصلت هذه الدول على "الاستقلال" من فرنسا في ستينيات القرن الماضي، ولكنها لم "تتحرر" بعد من الهيمنة الفرنسية، حيث ربطت فرنسا مصير هذه الدول بمصيرها من خلال رابطة "إفريقيا الفرنسية" ورابطة "الفرنكفونية" و"الفرنك الإفريقي"، وما زالت شركاتها (توتال، أورانج .....) ناشطة في استخراج وتصنيع المعادن في قطاعات الطاقة، والاتصالات وغيرها، وذلك فضلاً عن القواعد العسكرية الفرنسية التي بقيت موجودة حتى بعد استقلال هذه الدول!وإذا أخذنا "الغابون" كمثال والتي حصل فيها انقلاب عسكري قبل يومين فإننا نلاحظ أنها استقلت في عام 1960 وحكمها آل بونغو (الوالد علي وابنه عُمر لأكثر من خمسين سنة)، ورغم غناها بالنفط (من الدول الرئيسية المُنتجة للنفط في أفريقيا) والمنغنيز والأخشاب (تغطي الغابات ما يقارب الـ 90% من مساحة البلاد) لكن سكانها (2.3 مليون نسمة) يعيشون في حالة "فقر" وإن كانوا أحسن حالاً من غيرهم في إفريقيا.وإذا أخذنا النيجر (وهي التي حصل فيها انقلاب قبل شهرين تقريباً) كمثال آخر فإننا نلاحظ أنها من أكبر دول إفريقيا مساحة (1,270,000) كم2، ومن أغنى الدول الأفريقية بالمعادن (منتج رئيسي لليورانيوم والذهب) ولكنها تصنف مع ذلك على أنها من أفقر الدول حيث تعوزها البنية التحتية المناسبة، وتعاني من تدهور القطاع الصحي، وتدني في مستوى التعليم، فضلاً عن تجرؤ الجماعات المتطرفة على حدودها.إنّ مما يدلّل بوضوح على صدقية هذا التحليل (كون هذه الدول تطبق شكليات الديموقراطية وليس جوهرها، كما أنّ نُخبها الحاكمة الفاسدة تتواطأ مع الدول الغربية وبالذات فرنسا)، هو المظاهرات العفوية الكبيرة التي خرجت في كلا البلدين: الغابون وقبلها النيجر، حيثُ أحاط الأهالي في النيجر بالقاعدة العسكرية الفرنسية في العاصمة نيامي (تضم ألف جندي فرنسي) وكذلك بمنزل السفير الفرنسي مطالبين بمغادرتهم لأراضي البلاد بسرعة.إنّ المقاربة التي تتبناها فرنسا وبعض الدول الغربية "والأوكواس" (دول غرب إفريقيا)، وكذلك الاتحاد الإفريقي، بشأن الانقلابات العسكرية في غرب إفريقيا والقائمة على تجاهل الحقائق بشأن وضع هذه البلدان الفقيرة والمنهوبة من قبل المُستعمِرة السابقة (فرنسا) وبعض الدول الغربية الأخرى هذه المقاربة قاصرة عن فهم واقع شعوب هذه البلدان وحقها في التطلع إلى الحرية والانعتاق. إنّ الموضوع ليس الحفاظ على ما يسمى "المسار الدستوري"، و"العملية الديموقراطية" وغير ذلك من الشعارات المفرّغة من معناها، بل الموضوع هو الأخذ بيد هذه الدول لكي تمارس استقلالها حقيقةً لا شكلاً وأن تطّور نُظمها السياسية بما يحقق رغبات شعوبها في التنعم بثرواتها ومواردها وصولاً إلى عيش كريم وحياة مجتمعية ناجحة، وحينها فإنّ من الإنصاف مطالبة جيوش هذه الدول بالتزام ثكناتها وعدم التدخل في مسار الحياة السياسية.وختاماً، فإن الديموقراطية ليست شعاراً يُرفع أو "مظاهر" تُطبق للتغطية والايهام، ولكنها أسلوب حكم رشيد يؤدي بالضرورة إلى "مشاركة" الشعب في تقرير مصيره، وضمان أمنه، والتصرف بموارده بما يحقق رفاهه، وازدهاره.
مدار الساعة ـ نشر في 2023/08/31 الساعة 19:04