السفير.. يا خسارة !

مدار الساعة ـ نشر في 2017/01/03 الساعة 01:06
صالح القلاب

عندما أكتب عن صحيفة «السفير» فإنني أكتب عن فترة زاهرة من حياتي الصحفية والحقيقة أنني، وأنا الصحافي الأردني الوحيد الذي عمل وليس «كتب» فقط في هذه الصحيفة التي كادت تدرك «النهار» وتتجاوزها في فترة من الفترات، بعد تخرجي من كلية الإعلام، عندما كانت كلية واحدة لا شرقية ولا غربية في الجامعة اللبنانية، قد تعلمت مهنية الصحافة في «صوت الذين لا صوت لهم» والتي إذا كان معالي الصديق باسم السبع هو رئيس هيئة أركانها فإن أستاذنا جميعنا هو طلال سلمان الذي كان وبقي حتى الآن الحبر الصحفي يجري في عروقه والذي بقي يمتاز عن كل من إمتهنوا مهنة المتاعب هذه بأنه رشيق المفردات وأن نزعة الشاعر عنده موظفة في خدمة السياسي الذي يطربه أن يغرد للقومية العربية والذي كان ولا يزال يذوب عشقاً في جمال عبدالناصر.

ربما إنني إختلفت مع أستاذي طلال سلمان سابقاً ولاحقاً في أمورٍ ومواقف سياسية كثيرة لكنني بقيت أحترمه وأحترم قناعاته وحيث كانت آخر مرة إلتقيته فيها خلال عشاء أقامه رئيس الوزراء رفيق الحريري، رحمه الله، لوزراء الإعلام العرب وكنت أحدهم الذين إلتقوا في إجتماع في بيروت كانت أهم نقطة على جدول أعماله "القضية الفلسطينية" وهنا فإن ما يجب أن أشير إليه هو أنني شعرت أن «أستاذي» الكبير لم يكن ودوداً تجاهي وربما وأن السبب هو أنه كان مُنع من دخول الأراضي الأردنية وقد كتبت في حينها أن ذلك الإجراء كان خطأ فادحاً لا ضرورة له .

كانت آخر أيامي في «السفير»، التي كنت أذوب فيها عشقاً والتي أتمنى الآن وقد أغلقت أبوابها وأوقفت «عجلات» مطابعها وغادرها الزملاء، الذين كنت قد عشت مع بعضهم أياماً جملية، أن أزورها لأقبل جدرانها ولأقف فوق الأماكن التي كنت أتنقل بينها على هدير المدافع وزمجرات الصواريخ خلال الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982 ويومها، في تلك الأيام الموجعة والصعبة عندما أصبحت القذائف الإسرائيلية تنهمر كالمطر على بيروت الغربية، كان قد غادر معظم الزملاء في كل الأقسام وبقيت في القسم العربي والدولي وحدي وبقي أستاذنا محمد مشموشي مرابطاً ومعه بعض العاملين في الأقسام الفنية ومعنا في الأيام الأخيرة، بعد «تسلُّله» من مخيم عين الحلوة في صيدا ، الرسام الهائل العظيم ناجي العلي.. والصديق الكاتب فيصل الحوراني من خارج الصحيفة .

كل المطبوعات والصحف اللبنانية توقفت عن الصدور بعد الغزو الإسرائيلي، بما في ذلك صحيفة «النهار»، إلا صوت الذين لا صوت لهم .. ولقد كان أجمل عدد ذلك الذي إحتلت القسم الأيسر من صفحته رسمة لناجي العلي، الذي إغتالته يد الغدر في لندن في فترة لاحقة، تظهر فتاة جميلة تنحدر من طرف مقلتها الساحرة دمعة كقطرة «الندا».. وتحتها عبارة بخط هذا الفنان المبدع العظيم :»صباح الخير يا بيروت».

كان بيتي لا يبعد كثيراً عن مبنى «السفير» الذي يقع في نزلة الـ»سارولا» وكنت، قبل أن «أُهرِّب» زوجتي الغالية وطفليَّ الحبيبين بشار ونزار إلى الوطن الذي بقيت أعشقه عن بعد في سنوات الفراق الطويلة، أترك منزلي في الطابق الرابع وأنا أضع يدي على قلبي خوفاً من أعود إليه لأجده كومة من الحجارة الإسمنتية والأتربه وكنت خلال عودتي، بعدما تغادر «السفير» المطابع وتذهب إلى قرائها، على قلتهم في تلك الأيام الصعبة، أحار هل أهرول هرولة أم أمشي خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الخلف.. وذلك لخوفي من أن الهرولة قد تأخذني إلى مهبط إحدى القذائف التي كانت تنهمر إنهمار المطر على بيروت ومن أنَّ «الإبطاء» قد يجعلني في إنتظار القذيفة التي ستعيدني إلى الثلاثة الذين ينتظرونني في كل فجر ممزقاً مغمسا بالدم ومغطاة بالإتربة.

كانت تلك الأيام أصعب الأيام في حياتي وأجملها.. مع أن كل أيامي في تلك المرحلة كانت صعبة وكانت آخر نظرة ألقيتها على المنطقة من بيروت التي يقع فيها مبنى:»صوت الذين لا صوت لهم» وأنا أقف بمحاذاة أبو عمار رحمه الله وهو يرفع يده وداعاً لقادة الحركة الوطنية اللبنانية على سطح السفينة التي أخذته إلى أثينا ومنها إلى تلك الرحلة الطويلة التي إنتهت بالعودة إلى فلسطين... إلى غزة وأريحا أولاً ثم إلى رام الله حيث منها كانت نهاية رجل شجاع أعطى عمره كله لفلسطين ولقضية شعبه العظيم . الرأي
مدار الساعة ـ نشر في 2017/01/03 الساعة 01:06