مصير ترمب.. مصير الولايات المتحدة
مدار الساعة ـ نشر في 2023/08/16 الساعة 11:38
يستمر الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترمب في تحطيم الأرقام القياسية في عدد التهم بخرق القوانين الاتحادية والولائية الموجهة إليه التي تجاوزت حتى الآن ٩٠ اتهاما! وبينما يعاني الرئيس الأسبق المرشح الحالي لانتخابات الرئاسة على الصعيد القانوني ويخفق في تجنيد محامين محترمين قادرين على توجيه نصائح قانونية سديدة له أو على الأقل في الاحتفاظ بهذا النوع من المحامين تتصاعد أسهمه في بورصة السياسة حيث يتقدم على ثاني مرشح جمهوري لانتخابات الرئاسة رون ديسانتيس بأكثر من ٣٠ نقطة ما يجعله حتى الآن المرشح الأوحد للحزب الجمهوري في مواجهة مرشح ديمقراطي معلوم مجهول؛ معلوم لأن الرئيس الحالي جو بايدن أكد ترشحه للانتخابات ولكنه مجهول لأن الكثير من علامات الاستفهام تحوم حول قدراته البدنية والذهنية على خوض الانتخابات أولا وفوزه فيها ثانيا والبقاء لأربع سنوات أخرى رئيسا لأقوى وأخطر دولة في العالم ثالثا! يندد ترمب بطبيعة الحال بملاحقته قضائيا ويستخدمها ذخيرة سياسية وإعلامية في سعيه للفوز بترشح الحزب الجمهوري والبيت الأبيض وتلقى كلماته صدى واسعا لدى قاعدته الانتخابية الصلبة ومناهضي الحزب الديمقراطي وتحرج خصومه الجمهوريين الواقعين بين سندان ضرباته وانتقاداته اللاذعة ومطرقة الناخبين الذين يحتاجون إلى أصواتهم للفوز على المستوى الاتحادي بالرئاسة وعضوية مجلسي الشيوخ والنواب أو على مستوى حكام الولايات ومجالسها التشريعية. وسط هذه المعمعة يبقى السؤال بشأن مصير هذه الاتهامات الواحدة والتسعين الأصعب على الساحة السياسية في الولايات المتحدة فهل يمكن لترمب أن ينجو منها جميعا؟ وماذا لو أدين بواحدة عقوبتها السجن كما في الاتهامات الموجهة إليه في ولاية جورجيا التي لا تقل أي عقوبة لأحدها عن السجن خمس سنوات؟ هل سيستمر ترمب في حال إدانته بمسيرته السياسية ويصر على الوصول إلى البيت الأبيض من سجنه؟ هذا السؤال أجاب عليه ترمب نفسه لا بمجرد التصريح ولكن باختياره كذلك الظهور خلال تجمع انتخابي بولاية أيوا الشهر الماضي على أنغام أغنية ترحب كلماتها بالسجن! وبينما يرحب ترمب بسجنه ليكرس نفسه أمام أنصاره شهيدا سياسيا أو مسيحا يقبل الصلب من أجل خلاصهم تخوض مؤسسة الحزب الجمهوري معركة هوية وذات ومصير فهل يقبل الحزب العريق بأن يمثله في انتخابات الرئاسة مدان سواء سجن أو لم يسجن؟ هذا سؤال يحار قادة الحزب في إيجاد جواب له فالقبول بهذا الحال يصم الحزب بوصمة عار لن تنمحي إذا سجل التاريخ أنه لم يجد من بين صفوفه سوى شخص مدان لتمثيله في أهم وأخطر منصب سياسي في البلاد وإذا قرر الحزب التخلي عن ترمب واختيار مرشح بديل فإنه لا يغامر فقط بخسارة البيت الأبيض بل بخسارة الكونغرس أيضا وانقسام الحزب إلى شطرين على الأقل أحدهما القاعدة الصلبة الموالية لترمب والثانية القاعدة التقليدية للحزب وخسارة ملايين الناخبين من خارج هاتين الكتلتين. بعيدا عن الصراعات الحزبية هذه والانتخابات المقبلة تتخذ قضية ترمب أبعادًا أوسع في الولايات المتحدة التي يجمع المؤرخون والكتاب على أنها لم تشهد مثل هذا الاستقطاب السياسي والمجتمعي والثقافي منذ اندلاع الحرب الأهلية قبل أكثر من ١٦٠ عاما فالصراع في البلاد اليوم لا يتعلق بشخص ترمب أو بقيم الحزبين الجمهوري والديمقراطي قدر تعلقه بجواهر الأشياء التي آمن بها المهاجرون الأوائل قبل أكثر من ٢٧٠ عاما من تأسيس الدولة وفي صلبها الدين والسلاح الفردي والمغامرة التي صنعت وميزت المجتمع الأمريكي لقرون طويلة قبل أن يبدأ شكل هذا المجتمع في التغير خلال القرن المنصرم بتأثير ثورتي المواصلات والاتصالات ومع تدفق المهاجرين من دول غير مسيحية ومن ألوان غير بيضاء ومع تزايد عدد وكثافة الحواضر المدنية والمدارس الحكومية والجامعات التي فتحت أذهان الطلاب على عوالم أخرى وأدخلت في وعيهم قيما جديدة فاليوم لا تتمسك قاعدة ترمب به حبا به بل لأنه يدغدغ عواطفها ويستفز غرائزها ويعزف على وتر الحنين إلى تلك الأوقات التي شكل فيها السلاح الفردي أحد أعمدة الخيمة الأمريكية فهو وحده القادر على الدفاع عن النفس بوجه الأعداء والضواري ووضع الحدود للملكية العقارية التي كانت آنذاك مشاعا بين المهاجرين ومحل نزاع مع السكان الأصليين، وبينما شكلت روح المغامرة والبحث عن الثراء من أبواب التجارة والزراعة والصناعة والتعدين والسرقة والصعلكة كذلك عمود الخيمة الثاني شكلت الكنيسة عمودها الثالث فقد كانت إلى جانب منازل المهاجرين أول بناء يحرصون على إقامته والتجمع فيه أيام الآحاد لشكر الله على ما أعطى ورجائه للمزيد ولتعزيز الروابط الاجتماعية بين المهاجرين. هنا يكمن الصراع ولبه وحقيقته بين فئة تريد مجتمعا مسيحيا محافظا بعيدا عن سطوة الدولة وأذرعها وأدواتها وقيودها وقوانينها وفئة ترى أن ذلك عهد مضى وأن البلاد اليوم التي يزيد عدد سكانها على ٣٣٠ مليونا وتعيش زمنا غير ذلك الزمن بحاجة إلى حكومة قوية وقوانين تأخذ مصالح الجميع وتعدد مشاربهم وهوياتهم وأديانهم وثقافاتهم بعين الاعتبار.. حكومة تلتزم بفصل الدين عن الدولة لأن مواطنيها ينتمون لأديان العالم وطوائفه بأسرها فلا يمكن لها أن تغلب دينا على آخر ولا طائفة على أخرى.. حكومة تأخذ بالقانون للضعيف حقه من القوي.. حكومة تضع قيودا على الجشع الذي قسم البلاد إلى أقلية مترفة وأكثرية منهكة.. حكومة تضع حدا لسلاح منفلت من عقاله يقتل الأطفال والشيوخ والنساء باسم حماية الدستور… حكومة لجميع مواطنيها. هذا هو لب الصراع وجوهره وهو صراع كما أسلفت على الأسس التي قامت عليها الولايات المتحدة وأوصلتها إلى ذرى القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية في العالم فإذا كان القرن العشرين أمريكيا بإجماع الساسة والمؤرخين فلا اتفاق بينهم اليوم على أن هذا القرن سيكون كذلك بل ترجح الأغلبية تراجع هذا العملاق الذي ملأ الدنيا وشغل الناس على الساحة الدولية أو انكفاءه على نفسه والعودة إلى أدبيات ما قبل حقبة الرئيس ثيودور روزفلت السياسية التي كانت مكتفية بحكم تلك البقعة من الأرض الواقعة بين المحيطين الأطلسي والهادىء البالغة مساحتها نحو ١٠ ملايين كيلومتر مربع وترك العالم القديم لمشكلاته وصراعاته.
مدار الساعة ـ نشر في 2023/08/16 الساعة 11:38