الديمقراطية خيارنا الاستراتيجي
نسلم منذ البداية أن الديمقراطية هي خيارنا الاستراتيجي الذي لا رجعة عنه، وثابت من ثوابتنا الدستورية التي لا يجوز المساس بها، فنحن ومنذ بواكير تأسيس الدولة الأردنية–في مطلع القرن الماضي–قد اخترنا وبمحض إرادتنا النهج الديمقراطي كمنهجاً صالحاً لحياتنا السياسية العامة، إذ نرى فيه وفقاً لنهجه وغاياته ومراميه، أسلوباً ناجحاً في إدارة الحكم وممارسته، فهو يقوم على مبدأ يضمن إتاحة الفرصة أمام الجميع للمشاركة في عملية صنع القرار وتحمل المسؤولية، وذلك عبر الوسائل السلمية المشروعة لتحقيق هذه الغاية، ولعل في هذا ما يثبت?بأن اختيارنا للنهج الديمقراطي–المستند إلى إرادة الشعب–لم يكن عبثياً أو عشوائياً، ولم ينطلق من فراغ، وإنما جاء هذا الاختيار من إيمان ينبع من قناعة مطلقة، بأنه الخيار الأنسب والأصلح دون سواه.
وكاستهلال لا بد منه ينبغي علينا أولاً وقبل كل شيء التأكيد على أن الديمقراطية التي ندعو إليها، ونسعى إلى تكريس مبادئها، هي ليست ترفاً سياسياً أو تكلفاً لما لا فائدة فيه، ولاهي مطلباً موسمياً أو مجرد شعار يرفع ويردد في المناسبات العامة، وانما هي حاجة لا يمكن الاستغناء عنها، وضرورة مجتمعية وقومية تقتضيها متطلبات اللحاق بركب الحضارة الإنسانية المتجددة، والدوران مع التطور البشري الجارف حيثما دار، وبعكس ذلك، فإن مكاننا سوف يكون موضعه في ذيل القافلة، ولن نتقدم إلى الأمام قيد أنملة، وهذا ما لا يقبله كل ذي بصر وبصي?ة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن مصطلح الديمقراطية–في أدبيات الفكر المعاصر–يتضمن مفهوماً واسعاً وشاملاً، فقد أصبح لها على مستوى الاستخدام اللفظي والاصطلاحي والسياسي والفلسفي ما لا يقل عن ثلاثمائة تعريف مختلف، لذلك فمن الصعب أن تجد للديمقراطية تعريفاً ثابتاً ومحدداً يعبر بدقة عن كافة محتوياتها، أو تفسيراً جامعاً ومفصلاً لجوانبها المختلفة.
غير أن أكثر هذه التعريفات شيوعاً وتداولاً، هي أن الديمقراطية: كلمة إغريقية–يونانية الأصل–تعني حكم الشعب أو الحكم الذي تكون السلطة فيه للشعب، أي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، أما بالمشاركة السياسية أو التمثيل السياسي، وذلك من خلال إعطاء الحق لجميع المواطنين–سواء بسواء–في ممارسة العمل السياسي العام، وذلك لمنع أي شخص أو فئة من احتكار السلطة أو الأستئثار بالحكم، وتعد مدينة أثينا المكان الأول الذي تم فيه تطبيق هذا النوع من الحكم، وقد كان ذلك القرن الخامس الميلادي.
وعلى الرغم من اختلاف الآراء وتفاوتها حول تعريف مفهوم الديمقراطية، فإنها جميعاً تلتقي حول معنى أساسي واحد، وهو أن الديمقراطية وسيلة من وسائل الشعب لحكم نفسه بنفسه، وشكل من أشكال الحكم. الذي يتم فيه صنع القرار بمشاركة الغالبية العظمى من أفراد الشعب أو الأمة، والذي يتجسد في واقع حي وملموس من خلال الدعوة إلى إجراء انتخابات عامة–حرة ونزيهة–وتطبيق مبدأ تفويض السلطات، وحق تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية والانتساب إليها، وحق الوصول إلى السلطة، وتشكيل هيئات قضائية مستقلة عن سلطات الدولة، وسن الأنظمة والتشريعات الر?مية إلى صون الحريات العامة، وحماية حقوق الإنسان، وتكريس قيم العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، وسيادة القانون على الجميع–بدون استثناء–وإلى ما شامل ذلك من أشكال ممارستها.
ومن المتعارف عليه أن الديمقراطية تقوم على مبدأ حكم الأكثرية، على أن تتولى الأقلية دور المعارضة الوطنية البناءة، بمعنى أمتثال الأقلية لرأي الأكثرية–وفي الوقت ذاته–احترام الأكثرية لرأي الأقلية، وحقها في التعبير عنه بشرط أن لا يتجاوز حدود القانون، وحري بنا في هذا المقام لفت الإنتباه إلى أن التعددية التي تنادي بها الديمقراطية–لا تعني أن تدعي فئة أو جهة احتكار الحقيقة دون سواها، أو تظن أن من حقها توزيع صكوك المواطنة الصالحة والحرص على المصلحة الوطنية العليا دون غيرها.
وينبغي علينا التنبه هنا أن الحريات–التي تكفلها المبادئ الديمقراطية–لا تعني أن يتعدى أحد على حرية غيره، فالحرية تعني احترام الفرد بحريته، وعدم التطاول على حرية الآخرين، ذلك أن الحرية المطلقة تؤدي إلى الفوضى والخراب والاضطراب، وإذا لم تكن الحرية منضبطة ومسؤولة تؤدي إلى التسيب والأنفلات، وأخيراً وليس اخراً ينبغي علينا الإشارة هنا إلى أن وجه الديمقراطية المشرق يتجلى بالحوار البناء الهادف إلى الإقناع بعيداً عن الهوى والتعصب واحتكار الحقيقة.