المشروع الوطني الفلسطيني وضرورات المراجعة

د. أحمد بطَّاح
مدار الساعة ـ نشر في 2023/07/17 الساعة 13:00

إنّ مما لا شكّ فيه أن المشروع الوطني الفلسطيني الهادف أساساً إلى التحرر من الاحتلال الإسرائيلي يواجه الآن متغيرات مهمة تفرض على القائمين عليه أخذها بعين الاعتبار، ولعلّ أهم هذه المتغيرات ما يلي:

أولاً: انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو "اليمين" وبروز تيارات متطرفة فيه مثل حزب "القوة اليهودية" بزعامة "بن غفير" والصهيونية الدينية بزعامة "سموتريتش" حيث تؤمن هذه الأحزاب بأنّ الضفة الغربية هي أرض "يهودا والسامرة" وأنها أرض التوراة التي منحها الله لليهود دون غيرهم، وقد تبنت هذه الأحزاب سياسات تشمل تكثيف "الاستيطان" بل والضم في نهاية المطاف!
ثانياً: تراجع إمكانية تطبيق "حل الدولتين" في ظل تسارع الاستيطان (قرابة 700,000 مستوطن في الضفة الغربية وما يقارب 300,000 مستوطن في القدس الشرقية)، وفي ظل الطرق الالتفافية التي شقتها إسرائيل كي تعزل التجمعات الفلسطينية في "كانتونات" وتحول دون تواصلها الجغرافي والبشري، وفي ظل تنكر إسرائيل لحل الدولتين إلى درجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يدعو علناً إلى "اجتثاث" فكرة الدولة الفلسطينية غير عابئ بالشرعية الدولية والرأي العام العالمي وحتى بالسياسة الرسمية المعلنة لحليفته الكبرى وهي الولايات المتحدة التي تدّعي أنها ما زالت تؤمن بحل الدولتين.
ثالثاً: مأسسة الانقسام الفلسطيني بين حماس والجهاد الإسلامي في غزة وفتح التي تقود السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية، وغني عن القول أنّ إسرائيل تُغذي هذا الانقسام وتوظفه لصالحها، وغني عن القول كذلك أن كلا المعسكرين متمسك بموقفه (فصائل غزه تؤمن بالكفاح المسلح، وفتح تؤمن بالحل السياسي) ولم يعد هناك أمل بأن يلتقيا، وإلى درجة أن كثيرين من الشباب الآن بدأوا يفكرون خارج هذه الأُطر التنظيمية ويناضلون من خلال بُنى عابرة للفصائل كما هو الحال بالنسبة "لعرين الأسود" مثلاً.
رابعاً: تخلّي العرب واقعياً (أي بغض النظر عن المواقف اللفظية) عن "مركزية" القضية الفلسطينية واعتبارها القضية الأهم، والدلالة على ذلك أن إسرائيل نجحت في التطبيع مع ست دول عربية حتى الآن، وهي ماضية في تنفيذ مقاربة نتنياهو القائلة بأن حل القضية الفلسطينية يأتي من خلال التطبيع مع الدول العربية (معظمها وأهمها على الأقل) الأمر الذي يحرم الفلسطينيين من بعدهم الاستراتيجي العربي ويجعلهم يقبلون بما هو مطروح عليهم من قبل إسرائيل وهو "حكم ذاتي" لا أكثر ولا أقل!
خامساً: الافتقار إلى حليف استراتيجي مهم ذي ثقل سياسي عسكري يتبنى القضية الفلسطينية ويدعّمها بكل الوسائل فروسيا مشغولة الآن بحربها مع أوكرانيا وهي لم تعد "الاتحاد السوفيتي" السابق الذي كان يساند حركات التحرّر الوطني سياسياً وعسكرياً، والصين ما زالت مشغولة بنموها الاقتصادي الهائل وتحاول أن تأخذ دورها على استحياء في الفضاء السياسي الدولي، أما الولايات المتحدة فهي تتبنى عملياً سياسات إسرائيل وتوجهاتها وتحميها سياسياً، وتحرص مع بقية الدول الغربية على إبقائها أقوى عسكرياً من جميع جيرانها!
إنّ هذه المتغيرات التي تفرض نفسها بقوة وإلحاح على المشروع الوطني الفلسطيني تستدعي من أصحاب القرار والمفكرين الفلسطينيين ومؤيديهم التأمل في كيفية تجاوز هذه المتغيرات السلبية والتقليل من آثارها وارتداداتها، ولعلّ الخطوة الأولى على هذا الطريق هي العودة إلى الشعب الفلسطيني صاحب القضية ومرجعيتها وذلك لتمكينه من خلال انتخابات حُرّة ونزيهة من اختيار القيادات التي تعبّر عنه وعن آماله وطموحاته في التحرر والتقدم. إن مثل هذه القيادات التي ستكتسب المشروعية (Legitimacy) هي التي ستكون قادرة بحكم أنها منتخبة على تحشيد الصف الفلسطيني وتوظيف قواه الحية في الداخل وفي الشتات، كما ستكون قادرة على مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة وكل من يقف بالضد من آمال الشعب الفلسطيني وأمانيه.
صحيح أن القيادات المنتخبة قد لا تقود إلى تفوق عسكري بالضرورة ولكنها بالقطع سوف تقود إلى مصداقية التمثيل وهذه طاقة معنوية لا حدود لها، وهي كفيلة باجتراح جميع الوسائل والسبل التي تمكن الشعب الفلسطيني من تحقيق أهدافه.
إنّ الشعب هو مصدر السُلطات وهو مصدر الإلهام واستكشاف طرائق النجاح والنصر، ولذا فالعودة إليه يجب أن تكون مسألة حتمية.

مدار الساعة ـ نشر في 2023/07/17 الساعة 13:00