الزيود يكتب لـ مدار الساعة: في الجغرافيا الوطنية

مدار الساعة ـ نشر في 2017/08/24 الساعة 20:40
ربما وحدهم العسكر في بلدنا يعرفون تضاريس الوطن عن ظهر قلب، ويحفظون أسماء القرى والمدن والجبال والتلال والسهول والأودية، كما يحفظون وجوه أمهاتهم وأسماء ابنائهم وأرقام أسلحتهم، ولأنهم النبض الحي الذي لا يخبو، فهم الأقرب للتراب حتى لو كانوا بين السحاب، وترى المعسكرات والكتائب والسرايا مزروعة بين تلك التلال وعلى أطراف الأودية، عمروها العسكر بصوتهم وأشعلوا صباحاتها بتدريباتهم. رافقت ذات مرة تلاميذ جامعة مؤتة وهم ينفذون تمرين المسير الطويل على الأقدام، والذي يمتد لعشرة أيام، كجزء من دورة "الصاعقة" مع العمليات الخاصة، إنطلقوا من "سهل نصاب" شرقي "وادي الحجر" في الزرقاء، متجهين نحو "خو"، وهم يقطعون المسافات نحو طريق الزرقاء- المفرق، صاعدين نحو " ثغرة الجب " حيث يريحون تعبهم في تلك التلة المشرفة، ثم ينعطفون غربا إلى مغاريب المفرق، يساهرون النجوم نحو مروج "رحاب بني حسن " إلى "المنشية" ثم "أم اللولو" يزورونها إلى أن يحطوا رحالهم تلك الليلة بالقرب من "جامعة العلوم والتكنولوجيا" حيث سهول "النعيمة" تعمر بمروج القمح، يغفون بجوارها مع جيرانهم من الحصادين. في الصباح يسبقون الشمس ويصعدون نحو الشمال، مع مشاريق "الصريح"، ويسلمون على سهول حوران قاصدين "بشرى وسال" و"مرو"، يستظلون في ظهرهم تحت زيتونها وتينها. وهم ينسلون بكل وهج العسكر، كانوا يتجنبون دخول المدن والقرى، يعرجون من أطراف بساتينها وكرومها، ويقطعون السناسل بصمت، لا يأذون أحدا حتى الطير يمر بسلام فوقهم، يتجهون نحو قرى "بني كنانة " الغافية بخجل هناك ؛ حيث "حرثا" و"سمر" كالدحنون يتوهجن جمالا، ثم يشربون من " عين تراب "، ويتابعون خطواتهم نحو " عقربا " وواديها الطيب هناك، يجذبهم الرمان الذي يتلألأ على شجره، وربما أتى صاحبه ودعاهم لقطفه وتذوقه لكنهم شكروه بأدب الضيف العجول، وبالقرب من "سحم الكفارات " وفي غابة " العشة " ينامون ليلتهم، ومن هناك ربما تسمع صوت سيوف اليرموك وصهيل خيولهم..
يتسللون مع طلعة الفجر نحو " الشق البارد " الذي ليس له من اسمه نصيب، ترتفع الحرارة هنا ولربما تقترب الشمس حد الروؤس، وهم يعبرون الغور الشمالي وبالقرب من الحدود الأردنية السورية، يمشون نهارهم في الغور ثم يحملون تعبهم ثانية ويصعدون نحو رحلة العودة إلى " راجب " جارة " عجلون " و"كفرنجة"، هنا يتسرب الهواء البارد إليهم ويودعون الحر نحو الهضاب الوعرة، ويستظلون بالبلوط واللزاب حيث تنتهي رحلة المسير هنا، وقد تركت ندوبها في بواطن الأقدام، وعلى الركب والخواصر. ربما اختصرت الكثير من أسماء القرى والأماكن في رحلتهم، لكن تبقى في ذاكرتهم محفورة، ليست كدرس الجغرافيا في المدرسة، ولكنه درس مشوه بأقدامهم، ومسحوا عرقهم وتعبهم بجواره، لأن الجغرافيا الوطنية جزء أصيل من ذاكرة العسكر التي لا تنسى، وتبقى مستودع الذكريات والحكايات التي تروى للولد وولد الولد.
مدار الساعة ـ نشر في 2017/08/24 الساعة 20:40