فرسان أردنيون يغادرون ويرحلون بصمت
ودّعنا خلال العام الحالي فرسانا وكوكبة من رجالات الوطن الأوفياء الذين تركوا بصمات واضحة خلال مسيرتهم الزاخرة بالعطاء والانجاز وساهموا في بناء مداميك لبنات الأردن الوطن الأغلى الذين أفنوا حياتهم من أجله .... هذه المسيرة التي امتدت على مدى أربعين عاما خدمة لوطنهم.
وهكذا، يستمر رحيل الطيبين من أبناء الوطن حيث قضت إرادة الله أن يغادر قبل يومين فارس شهم من سماته النقاء والأصالة والنبل "الاستاذ يسار محمد عبد الوالي الخصاونه (1959-2023)"... رحل الكاتب والمثقف رجل القانون ونائب الشعب ... رحل صاحب الرأي السديد والكلمة االحّرة رجل المواقف واصلاح ذات البين الذي حظي باحترام وتقدير كل من عرفه، ونعاه الكثيرون لدماثة خلقه وطيب معدنه ... رحل الصادق الوفي الذي ما تبدّل ولا تغيّر، وكان من المؤمنين بوحدة الصف ووحدة الكلمة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء حيث حفّر في قلوب وعقول الناس مساحة كبيرة بأدبه الجم وصورته الانسانية الرائعة وفكره النيّر النقي.
التقيته قبل شهرين تقريبا في احدى المناسبات الأجتماعية وكان خلال تلك الفترة يخضع للعلاج صابرا حامدا مؤمنا على ابتلاء المرض، ورغم ذلك كان كالسنديانة حيث عاش شامخا مرفوع الهامة واثقا بالله ومدركا أن الأمان الحقيقي هو رحاب الله فكان قضاء الله أن يختاره إلى جواره ليرتاح في كنفه بعيدا عن فوضى الحياة وتقلباتها، ولتطمئن روحه الطاهرة في مقعد صدق عند مليك مقتدر في ضيافة الرحمن الرحيم.
ويمضي أيضا الشاعر والأديب والسياسي علي الفزاع العوامله (1954-2023) يوم الخميس 1/6/2023 إلى رحاب الله بعد معاناة مع المرض ... هذا النجم الساطع في فضاءات الشعر والثقافة الذي حصل على درجة البكالوريس عام 1977 والماجستير 1982عام من الجامعة الأردنية من قسم اللغة العربية، وكان بحق أحد سدنة لغة الضاد وفارسا من فرسان الكلمة شعرا ونثرا وجزالة وعمقا حيث بدأ حياته العملية معلما في وزارة التربية والتعليم ومن ثم مراقبا للبرامج الثقافية ورئيسا للقسم الثقافي في مؤسسة الاذاعة والتلفزيون الأردني ومديرا لشؤون الثقافة والتوجيه الوطني في وزارة الشباب حيث كان له نشاط وحضور ثقافي وأدبي لم تنطفيء له جذوة، ليلتحق بعد ذلك بالعمل السياسي والاعلامي في الديوان الملكي إلى أن أصبح مستشارا إعلاميا لجلالة الملك عام 2010 ومديرا لدائرة الاعلام في الديوان الملكي. إضافة الى حضوره الفاعل كعضو ساهم في إثراء مؤسسات ثقافية وأكاديمية بما امتلك من ثقافة شمولية ومنها عضوية مجلس أمناء الجامعة الأردنية وجامعة البلقاء التطبيقية، وعضو الهيئة الادارية لرابطة الكتاب الأردنيين، وعضو المجلس الأعلى للتوجية الوطني. وهكذا شاءت ارادة الله وآن لفارس الكلمة والشاعر والسياسي أن يرحل بعد معاناة مع المرض لتعود روحه الطاهرة الى بارئها راضية مرضية بإذن الله.
وقبل شهرين تقريبا رحل الطبيب الانسان عارف السعد البطاينه (1931-2023) الذي نشأ في بيت عز وكرم وأصالة وكان من الرعيل الأول من أطباء الاردن حيث تخرّج من كلية الطب في لندن عام 1961 ليلتحق في الخدمات الطبية الملكية خلال الفترة (1961-1991) طبيبا متمّيزا ومديرا لمدينة الحسين الطبية ومديرا للخدمات الطبية الملكية ساهم خلالها في بناء المنظومة الطبية في أردننا الغالي، كما تقلّد منصب وزير الصحة لأكثر من مرة خلال الفترة 1991-1996، ولم يتوقف خلالها عن ممارسة مهنة الطب التي عاش معظم حياته ناسكا في محرابها حيث كان استاذا سريريا في جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية عام 1997، إضافة الى تعيينه عضوا في مجلس الأعيان، وانتخابه عضوا في مجلس النواب.... هذا السجل الحافل بالانجاز لمعالي (أبو علاء) تلك الشخصية الأردنية الهوى والعربية الرسالة التي عشقت الأردن وطنا حيث قدّم رحمه الله في مختلف مجالات الخدمة العامة انجازات كبيرة ومنها القطاع الطبي واستمر في خدمة وطنه الى أن لاقى وجه ربه مساء يوم الثلاثاء في 9/5/2023 تاركا إرثا طبيا واجتماعيا كبيرا على أمتداد الأردن من أقصاه الى أقصاه.
وفي يوم السبت 22/4/2023 انتقل الى رحمة الله تعالى رجل الدولة القوي مضر محمد عايش بدران (1934-2023) الذي تلقى تعليمه الجامعي في دراسة القانون في جامعة دمشق وتخرج منها عام 1965. وتميّز دولة الاستاذ مضر بدران بصفات الحزم والذكاء وقوة الحجة، وسخّر كل ذلك لخدمة بلده الأردن في أحلك الظروف التي شهدتها المملكة من تحديات جسام خلال المواقع التي تبوأها حيث يعتبر من أبرز رجالات السياسة في عهد المغفور له الملك الحسين بن طلال، كما تقلّد العديد من المواقع الحسّاسة مديرا للمخابرات العامة ووزيرا للتربية والتعليم ورئيسا للديوان الملكي ورئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية والدفاع لأكثر من مرة (1976-1979، 1980-1984، 1989-1991)، إضافة الى مساهمته الكبيرة في النهوض بمسيرة التعليم العالي من خلال ترأسه للجنة الملكية لبناء جامعة اليرموك وجامعة العلوم والتكنولوجيا الاردنية والجامعة الهاشمية ورئيس مجلس أمنائها حيث أصبحت هذه الجامعات منارات علمية وحضارية نهضت بالأردن في كل المجالات. والذي يقرأ مذكرات السيد بدران رحمه الله التي نشرها قبل وفاته بعامين بعنوان "القرار" التي سرد فيها الظروف الأمنية والسياسية والاقتصادية في ظل أوساط إقليمية وعربية ملتهبة يجد قدرة رجل الدولة الموسوعي على التعامل مع التحديات الصعبة بحنكة سياسية راعت وضع المصالح العليا لوطننا فوق كل إعتبار فنال ثقة المغفور له راحلنا العظيم جلالة الحسين بن طلال طيب الله ثراه.
رحم الله رجالات الوطن المخلصين الذين صدقوا وعاهدوا الله ما عليه وما بدلوّا تبديلا، وكانوا بحق نجوما في سماء الوطن وقناديل نور وضياء أفنوا حياتهم من أجله يؤمنون بأن الوطن هو الأبقى ونحن راحلون، وأن الأردن هو أكبر منا جميعا.... في رحاب الله الأوسع من رحابنا أيها الراحلون الى كنف الله الرحمن الرحيم وإنا لله وإنا اليه راجعون.