شيب المقال

عبدالهادي راجي المجالي
مدار الساعة ـ نشر في 2023/06/06 الساعة 02:13
زمان كنت أقطع الشارع برشاقة, بانتباه وحرص.. كانت عيوني مثل عيون الصقر ترصد السيارات وتعرف سرعتها, وكانت رقبتي مثل ماسحات المطر في السيارة.. تتحرك يمينا وشمالا بكل سرعة.
منذ سنوات, وأنا أشعر أن هنالك بعض التغيرات في المشهد.. حركتي لم تعد رشيقة, وعيوني لم تعد ترصد السيارات, وغالبا ما تداهمني جملة: (انتبه يا سطل).. للأمانة هنالك بعض التنويع في الشتائم, فهي لا تقتصر على (سطل).. بل تتعداها إلى انتبه (ياطبرة).. وما يعجبني في المشهد هو نظرات السيدات وتعليقاتهن, واحدة مثلا قبل شهر قالت لي: (إنت أعمى ما بتشوف؟)..قطعت أكثر من نصف العمر ولم أعد أجرؤ أن أقطع شارعا, وقطعت كل فصول العشق..من النظرات وحتى الرسائل.. ولكن شارعا بطول (10) متر صرت اتعثر في قطعه, وقطعت أيضا شوطا لا بأس به من الحزن واليأس, وشوطا اخر من الهزيمة والشيب.. وأشواطا من الكوليسترول والدهنيات والترهل.. لكني أمام الشوارع صرت عاجزا للأسف.كل ذلك قد أقبله, لكن الذي غرس سكينا من الألم في صدري هو مشهد البارحة, حين أردت إحضار السجائر من (السوبر ماركت) القابع أمام منزلي, كانت الشارع يعج بالسيارات وقلت في داخلي لن اتحمس كثيرا, لابد أن تهدأ حركة المرور... وبقيت انتظر, إلى أن جاء صبي ربما في أول العشرين.. ومعه صبية بذات العمر, وقفوا بجانبي وابتسمت لهم.. ظننتهم ينتظرون قطع الشارع مثلي, لكني صدمت.. حين قال لي: (أنا بساعدك عمو).. ومشى عن شمالي.. وقام بتحريك يده للسيارات, ثم أوصلني للضفة الأخرى من الشارع... هو تطوع فقط لمساعدتي في قطع الشارع, ثم عاد لي?مل مسيره.ربما كرشي جعله يساعدني, أو ربما (نظاراتي) التي بدت مثل أكعاب زجاجات الكولا..أو ربما..تلك الشتائم التي كنت أطلقتها عبر تمتمات لمن يسيرون بسرعات عالية.المهم أني قطعت الشارع...كان بودي أن أقول للفتى: (لا تعيدها)...ولكني صمت ولشدة الخجل اشتريت وينستون بدلا من (الكنت).أنا أعترف أني صرت أعجز عن قطع الشارع,.. وها أنا أكتب ذلك من دون خجل, ولكني أستغرب من الذين قطعوا كل المراحل.. لا أعرف كيف يقبل رجل على نفسه أن يقطع كل خطوط الخجل والسن وأبجديات الكتابة, وأخلاقيات المهنة..., ويصبح في لحظة شابا بعمر العشرين.. ويكتب عن فرقة دبكة.المقال يشبه الجسد فهو يشيخ أحيانا ويشيخ كثيرا.. احترموا شيب المقال ولو قليلا.
مدار الساعة ـ نشر في 2023/06/06 الساعة 02:13