السواعير يكتب: التكريم الملكي للمثقفين..يدٌ حانية تمسح آلام الحياة عن المبدعين

مدار الساعة ـ نشر في 2023/05/28 الساعة 10:03
مدار الساعة - كتب: إبراهيم السواعير - إنّه لمما يثلج الصدر هذه الالتفاتة الملكيّة السامية لتكريم المثقفين الأردنيين والإعلاء من ثقتهم بأنفسهم وتعزيز دورهم في شتّى مناحي الحياة؛ فهم وعلى إبداعاتهم، إنّما يحملون فكرًا وجغرافيّةً وطنيّةً وعربيّةً وإنسانيّةً، وينخرطون في رسم شؤون الحياة وتوضيح مقاصدها النبيلة، ففي التكريم الملكي كل عيد استقلال لمثقفين ومبدعين وفنانين وناشطين في مواضيع ذات علاقة، ما يؤكّد اهتمام جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله بالفكر والثقافة، وكم من خطابٍ قويمٍ لجلالته كان يركّز على الابتعاد عن ثقافة الشكّ والتشكيك، وإعطاء المثقف حقّه في العيش الكريم ومنحه من الفرص ما هو كفيلٌ بأن يستمرّ في دوره المأمول عربيًا وعلى المستوى العالميّ، وقد كان هذا المزيج الثقافيّ الفكريّ المعرفيّ الإبداعيّ عند حسن ظنّ جلالة الملك، فها هو هذا القطاع يأخذ دوره وينطلق إلى عوالم من الخلق والابتكار، وتجاوز الشعور بالإحباط والسكون إلى يقين الذات الثقافيّة الأردنيّة، التي هي حصيلة التعليم والفكر والمعرفة والنفاذ إلى آفاق جديدة تدعم الفكرة الوطنيّة في كلّ حقولها، حتى أنّ العمل الروائيّ على سبيل المثال تدخل فيه السياسة والاقتصاد والدين ونظرة الناس وطموحاتهم، حين يقف الأديب بمواجهة هذا كلّه لصياغة عمل يصل إلى القلوب ويتّصف بصفات ساحرة في المعالجة وصناعة المشهد وفق تساؤلات الكاتب الذي هو جزءٌ أصيل من محيطه المجتمعيّ، فما يزال الناس يتحدثون عن أعمال أردنيّة أدبيّة في الشعر والقصّة والرواية وفي فنون المسرح والسينما والموسيقى والتشكيل وفي ما يتصل بالجانب الثقافي من جهود التأريخ والفلسفة والفكر، حين لا يتصنّم الفكر عند نقطة معيّنة، ويظلّ حيًّا ومواكبًا، بل ويمنح العمل السياسيّ طاقات من نور، باعتبار الثقافة حصان السياسة كما يقولون، بما ترتبط به من أساليب في التفكير ورؤية للناس حول التغيير أو موقفهم من تحوّلات المراحل وعبور البلدان إلى حالات جديدة ضمن هويّة وطنيّة وأساس ثابت من الوعي والمعرفة لا يلغي قراءة المستجدّ واستصفاء ما ينفع الأوطان ويؤدّي رسالتها النبيلة في هذه الحياة.
ومما يجدر الوقوف عنده واحترامه، أنّ اختيارات التكريم هذه لم تكن هكذا خبط عشواء، بل هي استحقاقٌ وطني ٌّيتوشّح كلّ عام بأوسمة وتكريمات عرفانًا من رأس الهرم في بلدنا جلالة الملك، وتقديرًا منه لجهود ظلّت تواظب واتخذت من الثقافة والأدب والفنّ مشروع حياة لا يقف أو ينتهي بعمل واحد بعد التكريم، بل إنّ مسؤوليّةً كبيرةً سوف يتحمّلها المثقف والمبدع وهو يرى أنّ هناك من يتابع أعماله ويبارك منجزاته ويقدّر مواظبته وتجاوزه كلّ عراقيل الحياة لإشهار هذا المنجز في المحيط العربيّ والعالميّ، فيتزايد الإبداع وتنتعش النفوس والأدوات الإبداعية والفكريّة وتُفتح منافذ الرؤية على مصراعيها للمراكمة على المشروع الثقافيّ والتفرّغ له، وهي فائدة معنويّة كبيرة حين يكون التكريم على الملأ في مناسبة عزيزة وبين يدي حضرة صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني الذي كان أجداده من ملوك بني هاشم يضعون الثقافة والفكر من أولى أولوياتهم واهتماماتهم ويباركون العاملين فيها من الشعراء والأدباء، حتى أنّ بلاط جلالة الجدّ المؤسس الملك عبدالله الأول ابن الحسين كان محجًّا للفكر والثقافة والشعراء، بل لقد كان رحمه الله شاعرًا وله في ذلك قصائد رائعة تحفظها الأجيال.فبين يدي جلالة الملك الحسين بن طلال طيّب الله ثراه، كانت قصيدة الشاعر العربيّ الكبير محمد مهدي الجواهري تملأ الأسماع والأفئدة، وهو يستعرض تاريخ الهواشم وصبرهم وحضورهم العربيّ وبناءهم المتين من الشورى والديمقراطيّة، في صور فنيّة رائعة في عقد التسعينيات من القرن الماضي، واليوم هاهم الشعراء يقفون بين يدي جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله فيلقون قصائدهم ويتغنّون بمكارم جلالته وهو يرود بهم مناطق جديدة من العطاء والفكر الذي بني عليه بلدنا، من حيث كونه جامعًا للعروبة وطامحًا لتحقيق مجدهم وحضورهم القوميّ والإنساني.ولقد انتهج صاحبّ السموّ الملكيّ وليّ العهد الأمين الأمير الحسين بن عبدالله الثاني هذا النهج، وسار عليه في محبّته للمثقفين وللناس بكلّ شرائحهم واهتماماتهم، فهم يردّون له هذا القرب والوفاء اليوم بالتحضير الطوعي والذاتيّ لزفافه الميمون بكلّ لهفةٍ وترقّب ليوم الفرحة الأكبر حين تقرّ عينا جلالة الملك وجلالة الملكة به، فتعلو البيارق ويصدح طائر الوطن في سماء الأردنّ بكلّ الأهازيج والتبريكات.أمّا الشخصيّتان المكرّمتان عن القطاع الثقافيّ لهذا العام، فقد كانتا: شخصيّة الأديب والروائيّ جلال برجس الغليلات، وهو مثقّفٌ مخلصٌ لمشروعه الأدبيّ واستطاع أن يظفر بجوائز عربيّة ويدخل إلى قلوب القرّاء وينفذ إلى طريقتهم في التفكير من خلال جمهوره الذي احترم فيه هذا الجهد الإبداعيّ المتواصل الذي تقاسم لأجله مع عائلته الوقت فتمخّض عن أعمال لافتة في الرواية أظهرت الصورة الطيّبة والناصعة للأديب الأردنيّ على مستوى خريطة الإبداع العربيّ، بل والمجاورة مع أعمال عالميّة هضمها الروائي جلال برجس في قراءاته ومستخلصاته لتتميّز بعمل رائع يشار إليه بالبنان. وكذلك شخصيّة الفنان الموسيقار د. هيثم سكريّة مبدع العديد من المؤلفات الأوركستراليّة، كأستاذ في مجاله، ومثّل الأردن عربيًّا، في أعمال لافتة، مثل سيمفونيّة وادي رم، وهو الفنان الذي عزفت له أوركسترا القاهرة السيمفوني إبداعه المميز، وإنجازاته كثيرة ومتنوعة، على المستوى الأكاديميّ والحضور الثقافيّ، وقد شدّ الجمهور بروعة ما يقدمّه دائمًا من أعمال ينسجم فيها إلى أبعد درجة كموسيقار متميّز، فكان وجهًا مشرقًا للإبداع الأردنيّ على المستويين العربيّ والعالميّ، على خريطة الإبداع الموسيقيّ في العالم.لقد انتصف جلالة الملك عبدالله الثاني دائمًا للفنانين والأدباء ووجّه إلى العناية بهم ووقف مع مطالبهم في توفير مساحات من الإبداع والظروف المساعدة على الإبداع، فكان المزيج الأدبيّ والفنيّ والفكريّ يتألق في بلدنا دون توقّف، تدعم ذلك سماء الحريّة التي فتحها جلالته لإبداعات الشباب وللكلمة الحرّة المسؤولة في الثقافة، وفي الصحافة أيضًا، وهما قطاعان مترابطان ولا ينفصلان بحالٍ من الأحوال.ويذكر الوسط الثقافي والفنيّ أنّ صاحب السّمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني حفظه الله قدّم لشاب مبدع من الكرك قيثاره الخاص، تعبيرًا عن الروح الأصيلة والأخويّة والنظرة الإنسانيّة الرائعة لسموّه تجاه المبدعين، وفي ذلك رسالة قويّة للقطاع الثقافيّ ومؤسساته في أن تكون عند حسن ظنّ المثقفين وإبداعاتهم، وتحديدًا فئة الشباب، بل إنّ في زيارة سموّه إلى فنانين واطمئنانه على ظروفهم الصحيّة، كما في حالة الفنان الرائع موسى حجازين، ما يعزز الثقة بأهميّة الإبداع واحترام دور الفنان والمثقف في الانخراط في شؤون المجتمع والتعبير عنه وحمل قضاياه ومتطلباته وتطلعاته إلى عالمٍ رائع لا تقف فيه حركة التجديد والابتكار على الدوام.ومنذ اليوم، سيحضّر كلّ مبدع وشاعر وفنان وأديب ومفكّر نفسه لكلّ عيد أو مناسبة، للتكريم بين يدي جلالة الملك، ومصافحته والشعور بالزهو بين يديه وهو يُقرّ مبدعينا على إبداعاتهم ويدعوهم للمزيد منها والإسهام بها في كلّ ما يحتاجه الأردنّ من تظافرٍ للجهود واستثمار للفرص الرائعة في ما نعيشه ويعيشه العالم من ظروف ومعطيات ومستجدات.فبين يدي جلالة الملك، الكلّ سواسية في تقدير الإبداع، فجلال برجس هو ابن محافظة مادبا، ونعرف بداياته وإصراره على إثبات الذّات وتحمّله كلّ ما يمنع المثقف والأديب أحيانًا عن إشهار العمل الأدبيّ الذي هو بمثابة مولود جديد يزيّن رفوف المكتبة المحليّة والعربيّة ويترجم إلى لغات العالم، ليتعرّف الآخر على أساليبنا في التفكير وفي الرؤية وفي التصالح مع الذات الإبداعيّة والانخراط في هموم الناس. والدكتور الفنان هيثم سكريّة وأمثاله من المبدعين ينبغي أن تفرش لهم الأرض مؤسسيًّا بالتسهيلات التي كثيرًا ما تغيب، بسبب الروتين والبيروقراطيّة المانعة للإبداع أحيانًا في مشهدنا الثقافي والأكاديمي. قديمًا كانت المعاناة من أنّ الأطراف لا تحظى بما يحظى به المركز الثقافيّ في العاصمة من حضور، لتأتي هذه اليد الكريمة لجلالة الملك حفظه الله فتمسح عن رأس المبدع آلامه ومتاعبه وتشعره أنّ عينًا محُبّةً وصادقةً تدعم مسعاه وتبارك جهوده نحو المزيد، وفي ذلك فليتنافس أولو الإبداع الثقافيّ لتقديم الصورة الناصعة والحضاريّة عن الأردنّ الذي نحبّ.
مدار الساعة ـ نشر في 2023/05/28 الساعة 10:03