الاحتيال والدجل يختلطان بالطب الشعبي
مدار الساعة ـ نشر في 2023/05/16 الساعة 01:35
مدار الساعة - ليالي أيوب وخليل الزيادين
تتسع في مجتمعات الأطراف «النائية» دائرة الاستعانة بالعلاج الشعبي أو الطب التقليدي، ويُشار إلى هذا الطب، في بعض البلدان، بمصطلح «الطب البديل» أو «الطب التكميلي»، غير أن هناك من يخلط بين هذا النوع من الطب أو العلاج وبين «الشعوذة» في التعامل مع الحالات المرضية التي تندرج معظمها ضمن اختصاص الطب النفسي.
ويأتي هذا الإقبال، وفق مختصين وخبراء، مناقضا لحالة التقدم العلمي والمعرفي والفكري في هذه المجتمعات التي أخذت تتلاشى فيها الأمية وترتفع فيها أعداد حمَلة الشهادات العليا بين أبنائها.
آراء المواطنين
وخلال لقاءات أجرتها «الرأي» مع عدد من الناشطين اجتماعيا حيال هذه القضية الجدلية والغريبة في مجتمعاتنا المحلية، يوضح الشاب أنس القرالة أن الإقبال على العلاج الشعبي والروحي، واعتباره المنفذ الوحيد للخروج من الضغوطات والأمراض النفسية والاجتماعية ينتشر في الأحياء والمجتمعات الفقيرة والنائية التي تُتداول فيها الروايات والأساطير غير الواقعية التي غالبا ما يقف وراءها المشعوذون بغرض استقطاب الحالات وجني الأموال بطريقة غير مشروعة وبما يمكن وصفه -في بعض الحالات- بالاحتيال خصوصا وأن طرق العلاج وأدواته غريبة وغير مألوفة مثل استخدام أجزاء الحيوانات وأسماء الأعشاب التي يزعم المعالجون أنها علاج للحالات التي تتردد عليهم.
ويرى أن إيهام المعالجين المرضى أن أقاربهم هم من تسببوا بأمراضهم وعللهم النفسية والجسدية أدى إلى خلق حالة من الكراهية بين الأقارب بما يهدد علاقات المجتمع ووحدة افراده، وبخاصة النساء منهم.
ويشير الدكتور محمد الطراونة إلى أن استعانة غالبية الحالات المرضية والنفسية بالمشعوذين بدل العيادات النفسية المتخصصة يدل على وجود مشكلة في فهم المجتمع للطب النفسي ونظرة المجتمع المرفوضة التي تترك تداعياتها على الحالات وعلاقتها بمجتمعها في قضايا اجتماعية عدة.
ولاحظ أن الإعلام بشكل عام، ومن خلال الأفلام والمسلسلات والثقافات الدخيلة، عزز من انتشار هذه الصورة السلبية، ما أوجد مخاوف لدى الكثيرين من مراجعة هذه العيادات، واللجوء عوضا عنها إلى العلاج الشعبي كمنفذ لتخفيف المعاناة، رغم إدراك الكثيرين أن هذا النوع من العلاج لا يمكن تصوره بعيدا عن الاستغلال والدجل والاحتيال.
ويوضح الدكتور خالد المواجدة أن اللجوء إلى المشعوذين في البحث عن الدفائن والكنوز وتوجيههم للمواقع الأثرية والمقابر القديمة اعتمادا على أساطير وروايات مزعومة من قبلهم تتسبب في تخريب وتدمير إرث حضاري وتاريخي يدلل على عراقة وحضارة منطقتنا.
ويطالب المواجدة الجهات المختصة بتغليظ العقوبات عند ضبط مثل هذه الحالات، لأن هذا الجرم «يتجاوز الاحتيال على المواطنين وصولا إلى تدمير وتخريب المواقع الأثرية والتاريخية».
ويرى المهندس محمد عبدالكريم الطراونة أن الضغوطات النفسية، على اختلافها، هي موضوع بشري بحت ولا يمتّ إلى الواقع بصلة، ومعظم الأمراض النفسية يمكن علاجها لأن المسبب الأساسي لها هو الدماغ فقط، فمن هذه الحالات الوصف الذي يسمى اضطراب الحيازة، ما يزيد من تردد هذه الحالات على المشعوذين لعلاجه، وهذا أمر خاطئ، بتقديره، لأن هذه الحالات هي مجرد تخيلات وتهيؤات يصنعها العقل البشري بسبب طبيعة وبيئة معينة عاشها الانسان، أو أن تكون ناتجة عن حالات فزع قاسية وغيرها من الأسباب.
ويؤكد الطراونة أن محاربة هذه الظاهرة المجتمعية تتطلب جهودا ومبادرات من مثقفي ومتعلمي المجتمعات والنخب، للتصدي لها ودعم التوجهات الرامية إلى توجيه الحالات المرضية نحو العيادات النفسية حرصا على الأفراد وسلامتهم النفسية والجسدية وتحصين المجتمع من السلوكيات والأمراض الاجتماعية المؤرقة ومنها النصب والاحتيال.
ويبين مؤنس الحوارني أنه رغم ارتفاع مستويات التعليم بمختلف التخصصات وانتشار تقنيات الاتصال وقنوات المعرفة ما تزال هناك فئة تساورها الأوهام والشكوك حول بعض ما تواجهه من مشاكل أو صعوبات في حياتها وأن السبب في ذلك هو العين والحسد أو السحر، ما أثّر بصورة سلبية على حياته الشخصية أو شريك حياته أو أفراد من أسرته، ووصلت في بعض الحالات إلى حدوث الانفصال الكامل بين الأزواج، فيما يلحظ استمرار ممارسات مثل وضع بعض الرموز أو التعويذات داخل المركبات أو المنازل للحماية من العين الحاسدة أو السحرة المفترضين، تصل إلى درجة مبالغ فيها، ومن ذلك تحميل الآخرين من الحساد أو المبغضين مسؤولية الفشل في الدراسة أو الزواج أو حدوث الأمراض، واللجوء لاحقا إلى من يدّعون أنهم مختصون في قراءة وتشخيص المشكلة والعمل على علاجها وجني المال مقابل ذلك.
ما الفرق بين الشعوذة والطب الشعبي؟
ووفقا لأحد المعالجين الشعبيين الذين التقتهم «الرأي»، يوضح أن حالة الإقبال عليهم تدل، بتقديره، على فاعلية طرقهم وأساليبهم التي رفض تسميتها بالاحتيال والدجل، ويؤكد أن العلاج الشعبي له تاريخ يمتد لعصور بعيدة وأن هذا النوع من العلاج ينتشر في مختلف الدول.
ويقول: إن استغلال بعض الأشخاص لهذا العلاج والإقبال عليه لجني الأموال بممارسته بدون علم ومعرفة بأصوله تسبب بعدد كبير من حالات الاحتيال ما استدعى انتشار الدعوات لوقف هذا العلاج.
وينبه إلى أن «المعالجين» لا يرون في أنفسهم منافسين للأطباء النفسيين أو غيرهم، لكنهم يمارسون العلاج بطرق تقليدية تستند إلى الكتب الدينية والمواد البسيطة التي من غير الممكن أن تلحق الأضرار بالحالات المرضية التي تتردد عليهم.
الشعوذة من منظور علم الاجتماع
ويرى أستاذ علم الاجتماع في جامعة مؤتة الدكتور رامي العساسفة أن المشاهدات المتعلقة بتعامل شريحة من أفراد المجتمع مع أشكال من الطب الشعبي لعلاج الضغوطات النفسية مرتبط ببعض العوامل الاجتماعية على الرغم من التطور الطبي الحديث.
ويلفت إلى أنه غالبا ما تكون هذه الشريحة من الأشخاص هم من فاقدي الأمل في الصحة والعلاج والعمل أو تحقيق أهدافهم بسبب عدم توفر الإمكانات.
ويوضح أن «النظرية اللامعيارية» في علم الاجتماع تشير إلى أن الفشل في تحقيق التطلعات ومواجهة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، يخلق الإحباط الذي يجعل الكثيرين يلجأون إلى هذا النوع من العلاج منخفض التكاليف بما يوازي إمكاناتهم المالية، وهنا لا يكون الفرد مهتما بعقلانية السلوك من عدمه، وإنما المهم لديه الإحساس بوجود مساحة تفريغ لحجم الضغط النفسي الذي يقع عليه.
ولاحظ أن الدوافع لعلاج الكثير من الضغط النفسي الواقع على الأفراد تمكن في القناعات النفسية لديهم وليس العقلية، في ظل مجتمع ما زال يتجذر فيه الفكر الخرافي بشكل متناقض مع المستويات العلمية لكثير من الأفراد داخل المجتمع.
ويعتقد العساسفة أن مجتمعنا لا يزال يختزن في وعيه الجمعي شعورا بالخجل من اللجوء للطبيب النفسي، ما يفسر لجوء النساء أكثر إلى هذا الشكل من العلاج النفسي تناغما مع ضعف المناعة النفسية لديهن وتشكيل قناعات بالغيبيات أكثر من الرجال خلال مراحل التنشئة الاجتماعية التي تخضع لها المرأة داخل المجتمع.
موقف الطب النفسي
ويوضح الطبيب النفسي عامر الرواجفة أن الأمراض والاضطرابات تعود بشكل عام إلى عوامل رئيسية وهي العامل الجيني أو الوراثي للمرض، والعوامل البيئية والاجتماعية المساعِدة على الأمراض النفسية التي حالها حال الأمراض العضوية، حيث يكون بها خلل بالنواقل العصبية بالدماغ ويتم العلاج بإعطاء المريض بعض الأدوية التي تساعد على شفائه.
غير أن الأمر، برأيه، يختلط على بعض الناس، بسبب ثقافة المجتمع الموجودة، ما بين المرض النفسي وبعض الخزعبلات الموروثة ثقافيا التي من الممكن أن تفسر الأعراض والاضطرابات الموجودة لديهم بالحسد والسحر، وبالتالي يتوجهون إلى السحرة والمشعوذين.
وهنا تأتي الجدلية، بتقديره، بتردد حالات كثيرة من بينها حمَلة الشهادات العليا والمتعلمين على مزاولي هذه الممارسات البعيدة كل البعد عن العلاج النفسي الصحيح.
ويشير الرواجفة إلى ثقافة العيب الموجودة عند المجتمع حيال المرض النفسي مما يدفعهم للتوجه الى أشخاص غير مختصين بالعلم النفسي لرفضهم الاعتراف بالمشكلة أو المرض النفسي الموجود لديهم مما سيترتب عليه تفاقم الأعراض، لأنه كلما كان هناك تأخر في العلاج تفاقمت الأعراض وأصبح علاجه أكثر تعقيدا.
ويبين الرواجفة أن الطب النفسي ينظر بصورة علمية بحتة إلى أن المرض النفسي مصدره الاضطرابات النفسية التي تؤثر على حياة الناس، وهو لا يرى مقارنة أو منافسة بين الطب النفسي والعلاج بالشعوذة، ويعول على حالة الوعي المتزايدة لدى المجتمع التي ستخلص إلى أنه لا جدوى من التردد على غير المختصين أو اللجوء للعلاج الشعبي الذي لا يجدي نفعا، ويتسبب في استهلاك طاقات هذه الحالات المرضية ماديا ومعنويا.
ويحذر من أن الضرر الأكبر في هذه الظاهرة هو «التأخر عن مراجعة الطبيب النفسي» مما يزيد من تعقيد الحالة ويطيل فترة العلاج ويؤثر على المريض وصحته النفسية والجسدية والاجتماعية والاقتصادية أيضا.
ويشدد الرواجفة على دور الإعلام في تعزيز اللجوء إلى الطب النفسي وما يرافقه من وجود مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الإعلام وقنواته المختلفة لتغيير الصورة الذهنية السلبية للناس عن مفهوم الطب النفسي.
ويطالب مختلف مؤسسات المجتمع بمحاربة الشعوذة والمشعوذين والمحتالين والمضللين لعقول الناس لتحقيق أهدافهم الخاصة.
الموقف الديني
وفي إيضاحه للعلاج الشعبي من وجهة نظر الشريعة الإسلامية يبين أستاذ الشريعة في جامعة مؤتة الدكتور محمد الرواشدة أن مصطلح الطب التقليدي (الشعبي) يشير إلى مجموعة من المعارف والمهارات والممارسات القائمة على النظريات والمعتقدات والخبرات الأصيلة التي تمتلكها مختلف الثقافات وتُستخدم للحفاظ على الصحة والوقاية من الأمراض الجسدية والنفسية أو تشخيصها أو علاجها أو تحسين أحوال المصابين بها، ويشمل الطب التقليدي (الشعبي) طائفة واسعة من المعالجات والممارسات التي قد تختلف باختلاف البلدان والمناطق.
ويذكّر أن الطب التقليدي (الشعبي) معروف منذ آلاف السنين وأسهم ممارسوه بقسط وافر في تحسين الصحة البشرية، وبخاصة مقدمي خدمات الرعاية الأوّلية على الصعيد المجتمعي.
ويقول إن هناك حكما للتداوي بالأعشاب شرعا، حيث أنه لا حرج في التداوي بالأعشاب، وغير الأعشاب، إذا كان مباحا،مستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: عباد الله تداووا، ولا تداووا بحرام».
ويؤشر إلى ما شاع في هذا العصر من ظاهرة لم تُعرف من قبل، وهي ظهور المتخصصين في العلاج بالقرآن، الذين يزعمون أنهم يستطيعون أن يعالجوا أي مريض عن طريق قراءة آيات معينة من القرآن، وقد يستجيب بعض الناس فيشفون، بينما آخرون لا يؤثر فيهم هذا العلاج.
ويلفت إلى أن هذه الظاهرة، التي تعتبر أحدث أمراض الأمة الإسلامية، توسعت إلى حد فتح عيادات للعلاج بالقرآن لحالات استعصت على الأطباء، وإلى إنشاء مواقع على الإنترنت للعلاج بالقرآن والرقية الشرعية، ونال أصحابها شهرة في هذا المجال فاقت شهرة نجوم السينما.
ويبين الأب أيهم زيادين راعي كنيسة القديس جارجيوس في بلدة السماكية شمال محافظة الكرك، أن موقف الكنيسة الكاثوليكية هو رفض جميع أشكال العِرافة، كاللجوء إلى الشيطان أو الأبالسة واستحضار الأموات أو أي ممارسات تكشف عن المستقبل، كذلك ممارسات السحر والعرافة التي يُزعم بها ترويض القوى الخفية لجعلها في خدمة الإنسان، وهي تعد مخالفة جسيمة لفضيلة الدين الذي يدعو المؤمن إلى وضع ذاته بثقة بين يدي العناية الإلهية، فيما يتعلق بالمستقبل والحياة والمرض.
ويشير زيادين إلى أن تعاليم الكنسية تحدثت فعلا عن وجود الشياطين، لكن ليس ككيانات مستقلة، وإنما لها تأثير روحي سلبي على الإنسان الذي لا يولي إرادة الله اهتماما في حياته الخاصة، وإنما الذي يستعين بقوى غيبية أخرى أو قوته الفردية وحدها لمواجهة المصاعب الحياتية، وفق ما ورد في تعاليم الكنيسة.
وينبه إلى أن العلاج لهذا المس له شروط وطقوس كنسية خاصة، ولا يمكن أن تجري إلا من خلال كاهن معتمد من قبل المطران لهذه الغاية، بعد استنفاد الوسائل الطبية المتاحة ووصول المريض إلى حالة لم يعالجها الطب النفسي المتاح، وهذه تعد حالات قليلة، وهناك حالات تمت معالجتها بطقوس وصلوات محددة لإخراج المس الشيطاني منها، وتبين بعد معالجتها تغير صوت المريضة أو المريض.
ويذكّر أن السيد المسيح (عليه السلام) بذاته تغلب على تجارب الشيطان خلال وجوده على الأرض لنشر رسالته. (الرأي)
ويأتي هذا الإقبال، وفق مختصين وخبراء، مناقضا لحالة التقدم العلمي والمعرفي والفكري في هذه المجتمعات التي أخذت تتلاشى فيها الأمية وترتفع فيها أعداد حمَلة الشهادات العليا بين أبنائها.
آراء المواطنين
وخلال لقاءات أجرتها «الرأي» مع عدد من الناشطين اجتماعيا حيال هذه القضية الجدلية والغريبة في مجتمعاتنا المحلية، يوضح الشاب أنس القرالة أن الإقبال على العلاج الشعبي والروحي، واعتباره المنفذ الوحيد للخروج من الضغوطات والأمراض النفسية والاجتماعية ينتشر في الأحياء والمجتمعات الفقيرة والنائية التي تُتداول فيها الروايات والأساطير غير الواقعية التي غالبا ما يقف وراءها المشعوذون بغرض استقطاب الحالات وجني الأموال بطريقة غير مشروعة وبما يمكن وصفه -في بعض الحالات- بالاحتيال خصوصا وأن طرق العلاج وأدواته غريبة وغير مألوفة مثل استخدام أجزاء الحيوانات وأسماء الأعشاب التي يزعم المعالجون أنها علاج للحالات التي تتردد عليهم.
ويرى أن إيهام المعالجين المرضى أن أقاربهم هم من تسببوا بأمراضهم وعللهم النفسية والجسدية أدى إلى خلق حالة من الكراهية بين الأقارب بما يهدد علاقات المجتمع ووحدة افراده، وبخاصة النساء منهم.
ويشير الدكتور محمد الطراونة إلى أن استعانة غالبية الحالات المرضية والنفسية بالمشعوذين بدل العيادات النفسية المتخصصة يدل على وجود مشكلة في فهم المجتمع للطب النفسي ونظرة المجتمع المرفوضة التي تترك تداعياتها على الحالات وعلاقتها بمجتمعها في قضايا اجتماعية عدة.
ولاحظ أن الإعلام بشكل عام، ومن خلال الأفلام والمسلسلات والثقافات الدخيلة، عزز من انتشار هذه الصورة السلبية، ما أوجد مخاوف لدى الكثيرين من مراجعة هذه العيادات، واللجوء عوضا عنها إلى العلاج الشعبي كمنفذ لتخفيف المعاناة، رغم إدراك الكثيرين أن هذا النوع من العلاج لا يمكن تصوره بعيدا عن الاستغلال والدجل والاحتيال.
ويوضح الدكتور خالد المواجدة أن اللجوء إلى المشعوذين في البحث عن الدفائن والكنوز وتوجيههم للمواقع الأثرية والمقابر القديمة اعتمادا على أساطير وروايات مزعومة من قبلهم تتسبب في تخريب وتدمير إرث حضاري وتاريخي يدلل على عراقة وحضارة منطقتنا.
ويطالب المواجدة الجهات المختصة بتغليظ العقوبات عند ضبط مثل هذه الحالات، لأن هذا الجرم «يتجاوز الاحتيال على المواطنين وصولا إلى تدمير وتخريب المواقع الأثرية والتاريخية».
ويرى المهندس محمد عبدالكريم الطراونة أن الضغوطات النفسية، على اختلافها، هي موضوع بشري بحت ولا يمتّ إلى الواقع بصلة، ومعظم الأمراض النفسية يمكن علاجها لأن المسبب الأساسي لها هو الدماغ فقط، فمن هذه الحالات الوصف الذي يسمى اضطراب الحيازة، ما يزيد من تردد هذه الحالات على المشعوذين لعلاجه، وهذا أمر خاطئ، بتقديره، لأن هذه الحالات هي مجرد تخيلات وتهيؤات يصنعها العقل البشري بسبب طبيعة وبيئة معينة عاشها الانسان، أو أن تكون ناتجة عن حالات فزع قاسية وغيرها من الأسباب.
ويؤكد الطراونة أن محاربة هذه الظاهرة المجتمعية تتطلب جهودا ومبادرات من مثقفي ومتعلمي المجتمعات والنخب، للتصدي لها ودعم التوجهات الرامية إلى توجيه الحالات المرضية نحو العيادات النفسية حرصا على الأفراد وسلامتهم النفسية والجسدية وتحصين المجتمع من السلوكيات والأمراض الاجتماعية المؤرقة ومنها النصب والاحتيال.
ويبين مؤنس الحوارني أنه رغم ارتفاع مستويات التعليم بمختلف التخصصات وانتشار تقنيات الاتصال وقنوات المعرفة ما تزال هناك فئة تساورها الأوهام والشكوك حول بعض ما تواجهه من مشاكل أو صعوبات في حياتها وأن السبب في ذلك هو العين والحسد أو السحر، ما أثّر بصورة سلبية على حياته الشخصية أو شريك حياته أو أفراد من أسرته، ووصلت في بعض الحالات إلى حدوث الانفصال الكامل بين الأزواج، فيما يلحظ استمرار ممارسات مثل وضع بعض الرموز أو التعويذات داخل المركبات أو المنازل للحماية من العين الحاسدة أو السحرة المفترضين، تصل إلى درجة مبالغ فيها، ومن ذلك تحميل الآخرين من الحساد أو المبغضين مسؤولية الفشل في الدراسة أو الزواج أو حدوث الأمراض، واللجوء لاحقا إلى من يدّعون أنهم مختصون في قراءة وتشخيص المشكلة والعمل على علاجها وجني المال مقابل ذلك.
ما الفرق بين الشعوذة والطب الشعبي؟
ووفقا لأحد المعالجين الشعبيين الذين التقتهم «الرأي»، يوضح أن حالة الإقبال عليهم تدل، بتقديره، على فاعلية طرقهم وأساليبهم التي رفض تسميتها بالاحتيال والدجل، ويؤكد أن العلاج الشعبي له تاريخ يمتد لعصور بعيدة وأن هذا النوع من العلاج ينتشر في مختلف الدول.
ويقول: إن استغلال بعض الأشخاص لهذا العلاج والإقبال عليه لجني الأموال بممارسته بدون علم ومعرفة بأصوله تسبب بعدد كبير من حالات الاحتيال ما استدعى انتشار الدعوات لوقف هذا العلاج.
وينبه إلى أن «المعالجين» لا يرون في أنفسهم منافسين للأطباء النفسيين أو غيرهم، لكنهم يمارسون العلاج بطرق تقليدية تستند إلى الكتب الدينية والمواد البسيطة التي من غير الممكن أن تلحق الأضرار بالحالات المرضية التي تتردد عليهم.
الشعوذة من منظور علم الاجتماع
ويرى أستاذ علم الاجتماع في جامعة مؤتة الدكتور رامي العساسفة أن المشاهدات المتعلقة بتعامل شريحة من أفراد المجتمع مع أشكال من الطب الشعبي لعلاج الضغوطات النفسية مرتبط ببعض العوامل الاجتماعية على الرغم من التطور الطبي الحديث.
ويلفت إلى أنه غالبا ما تكون هذه الشريحة من الأشخاص هم من فاقدي الأمل في الصحة والعلاج والعمل أو تحقيق أهدافهم بسبب عدم توفر الإمكانات.
ويوضح أن «النظرية اللامعيارية» في علم الاجتماع تشير إلى أن الفشل في تحقيق التطلعات ومواجهة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، يخلق الإحباط الذي يجعل الكثيرين يلجأون إلى هذا النوع من العلاج منخفض التكاليف بما يوازي إمكاناتهم المالية، وهنا لا يكون الفرد مهتما بعقلانية السلوك من عدمه، وإنما المهم لديه الإحساس بوجود مساحة تفريغ لحجم الضغط النفسي الذي يقع عليه.
ولاحظ أن الدوافع لعلاج الكثير من الضغط النفسي الواقع على الأفراد تمكن في القناعات النفسية لديهم وليس العقلية، في ظل مجتمع ما زال يتجذر فيه الفكر الخرافي بشكل متناقض مع المستويات العلمية لكثير من الأفراد داخل المجتمع.
ويعتقد العساسفة أن مجتمعنا لا يزال يختزن في وعيه الجمعي شعورا بالخجل من اللجوء للطبيب النفسي، ما يفسر لجوء النساء أكثر إلى هذا الشكل من العلاج النفسي تناغما مع ضعف المناعة النفسية لديهن وتشكيل قناعات بالغيبيات أكثر من الرجال خلال مراحل التنشئة الاجتماعية التي تخضع لها المرأة داخل المجتمع.
موقف الطب النفسي
ويوضح الطبيب النفسي عامر الرواجفة أن الأمراض والاضطرابات تعود بشكل عام إلى عوامل رئيسية وهي العامل الجيني أو الوراثي للمرض، والعوامل البيئية والاجتماعية المساعِدة على الأمراض النفسية التي حالها حال الأمراض العضوية، حيث يكون بها خلل بالنواقل العصبية بالدماغ ويتم العلاج بإعطاء المريض بعض الأدوية التي تساعد على شفائه.
غير أن الأمر، برأيه، يختلط على بعض الناس، بسبب ثقافة المجتمع الموجودة، ما بين المرض النفسي وبعض الخزعبلات الموروثة ثقافيا التي من الممكن أن تفسر الأعراض والاضطرابات الموجودة لديهم بالحسد والسحر، وبالتالي يتوجهون إلى السحرة والمشعوذين.
وهنا تأتي الجدلية، بتقديره، بتردد حالات كثيرة من بينها حمَلة الشهادات العليا والمتعلمين على مزاولي هذه الممارسات البعيدة كل البعد عن العلاج النفسي الصحيح.
ويشير الرواجفة إلى ثقافة العيب الموجودة عند المجتمع حيال المرض النفسي مما يدفعهم للتوجه الى أشخاص غير مختصين بالعلم النفسي لرفضهم الاعتراف بالمشكلة أو المرض النفسي الموجود لديهم مما سيترتب عليه تفاقم الأعراض، لأنه كلما كان هناك تأخر في العلاج تفاقمت الأعراض وأصبح علاجه أكثر تعقيدا.
ويبين الرواجفة أن الطب النفسي ينظر بصورة علمية بحتة إلى أن المرض النفسي مصدره الاضطرابات النفسية التي تؤثر على حياة الناس، وهو لا يرى مقارنة أو منافسة بين الطب النفسي والعلاج بالشعوذة، ويعول على حالة الوعي المتزايدة لدى المجتمع التي ستخلص إلى أنه لا جدوى من التردد على غير المختصين أو اللجوء للعلاج الشعبي الذي لا يجدي نفعا، ويتسبب في استهلاك طاقات هذه الحالات المرضية ماديا ومعنويا.
ويحذر من أن الضرر الأكبر في هذه الظاهرة هو «التأخر عن مراجعة الطبيب النفسي» مما يزيد من تعقيد الحالة ويطيل فترة العلاج ويؤثر على المريض وصحته النفسية والجسدية والاجتماعية والاقتصادية أيضا.
ويشدد الرواجفة على دور الإعلام في تعزيز اللجوء إلى الطب النفسي وما يرافقه من وجود مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الإعلام وقنواته المختلفة لتغيير الصورة الذهنية السلبية للناس عن مفهوم الطب النفسي.
ويطالب مختلف مؤسسات المجتمع بمحاربة الشعوذة والمشعوذين والمحتالين والمضللين لعقول الناس لتحقيق أهدافهم الخاصة.
الموقف الديني
وفي إيضاحه للعلاج الشعبي من وجهة نظر الشريعة الإسلامية يبين أستاذ الشريعة في جامعة مؤتة الدكتور محمد الرواشدة أن مصطلح الطب التقليدي (الشعبي) يشير إلى مجموعة من المعارف والمهارات والممارسات القائمة على النظريات والمعتقدات والخبرات الأصيلة التي تمتلكها مختلف الثقافات وتُستخدم للحفاظ على الصحة والوقاية من الأمراض الجسدية والنفسية أو تشخيصها أو علاجها أو تحسين أحوال المصابين بها، ويشمل الطب التقليدي (الشعبي) طائفة واسعة من المعالجات والممارسات التي قد تختلف باختلاف البلدان والمناطق.
ويذكّر أن الطب التقليدي (الشعبي) معروف منذ آلاف السنين وأسهم ممارسوه بقسط وافر في تحسين الصحة البشرية، وبخاصة مقدمي خدمات الرعاية الأوّلية على الصعيد المجتمعي.
ويقول إن هناك حكما للتداوي بالأعشاب شرعا، حيث أنه لا حرج في التداوي بالأعشاب، وغير الأعشاب، إذا كان مباحا،مستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: عباد الله تداووا، ولا تداووا بحرام».
ويؤشر إلى ما شاع في هذا العصر من ظاهرة لم تُعرف من قبل، وهي ظهور المتخصصين في العلاج بالقرآن، الذين يزعمون أنهم يستطيعون أن يعالجوا أي مريض عن طريق قراءة آيات معينة من القرآن، وقد يستجيب بعض الناس فيشفون، بينما آخرون لا يؤثر فيهم هذا العلاج.
ويلفت إلى أن هذه الظاهرة، التي تعتبر أحدث أمراض الأمة الإسلامية، توسعت إلى حد فتح عيادات للعلاج بالقرآن لحالات استعصت على الأطباء، وإلى إنشاء مواقع على الإنترنت للعلاج بالقرآن والرقية الشرعية، ونال أصحابها شهرة في هذا المجال فاقت شهرة نجوم السينما.
ويبين الأب أيهم زيادين راعي كنيسة القديس جارجيوس في بلدة السماكية شمال محافظة الكرك، أن موقف الكنيسة الكاثوليكية هو رفض جميع أشكال العِرافة، كاللجوء إلى الشيطان أو الأبالسة واستحضار الأموات أو أي ممارسات تكشف عن المستقبل، كذلك ممارسات السحر والعرافة التي يُزعم بها ترويض القوى الخفية لجعلها في خدمة الإنسان، وهي تعد مخالفة جسيمة لفضيلة الدين الذي يدعو المؤمن إلى وضع ذاته بثقة بين يدي العناية الإلهية، فيما يتعلق بالمستقبل والحياة والمرض.
ويشير زيادين إلى أن تعاليم الكنسية تحدثت فعلا عن وجود الشياطين، لكن ليس ككيانات مستقلة، وإنما لها تأثير روحي سلبي على الإنسان الذي لا يولي إرادة الله اهتماما في حياته الخاصة، وإنما الذي يستعين بقوى غيبية أخرى أو قوته الفردية وحدها لمواجهة المصاعب الحياتية، وفق ما ورد في تعاليم الكنيسة.
وينبه إلى أن العلاج لهذا المس له شروط وطقوس كنسية خاصة، ولا يمكن أن تجري إلا من خلال كاهن معتمد من قبل المطران لهذه الغاية، بعد استنفاد الوسائل الطبية المتاحة ووصول المريض إلى حالة لم يعالجها الطب النفسي المتاح، وهذه تعد حالات قليلة، وهناك حالات تمت معالجتها بطقوس وصلوات محددة لإخراج المس الشيطاني منها، وتبين بعد معالجتها تغير صوت المريضة أو المريض.
ويذكّر أن السيد المسيح (عليه السلام) بذاته تغلب على تجارب الشيطان خلال وجوده على الأرض لنشر رسالته. (الرأي)
مدار الساعة ـ نشر في 2023/05/16 الساعة 01:35