في تفسير الحال العربي «2»
مدار الساعة ـ نشر في 2017/08/19 الساعة 00:24
ا.د. كامل صالح أبو جابر
منذ بزوغ فجر الاسلام، والدولة في مشرقنا العربي في حالة تأهب للدفاع عن النفس ضد هجمات الخارج، بعضها من الشرق واغلبها من الغرب. قاد جو الازمة هذا على مدى قرون طويلة، الى عدد من المضاعفات منها التركيز على اعلاء قيمة الامن والاستقرار على اي قيمة اخرى، واعطاء رأس الدولة كل الصلاحيات لتحقيق ذلك.
لا شك بان عددا لا بأس به من الخلفاء والسلاطين والامراء والحكام الذين تعاقبوا علينا عبر القرون الماضية كانوا صالحين وجيدين، ولكن لا شك ان الغالبية منهم كانوا عكس ذلك واثبتوا مقولة الفقيه القانوني البريطاني اللورد اكتون «ان السلطة مفسدة وان السلطة المطلقة مفسدة مطلقة».
في اجواء حكم لا مرد فيه لارادة السلطان، اصبح شأن «علماء» عصره، تبرير افعاله وتثبيت السلطة لابناء الدولة او تطوير المجتمع. وهكذا ابتعدت الدولة عن الناس بحيث لم تعد تكترث ابدا لا بما يفكرون ولا بطموحاتهم واحلامهم ولا حتى بأمور حياتهم اليومية من حيث التربية او التعليم او الصحة او التنمية بأي بعد من ابعادها حتى ان الدولة التي وصلتنا عبر قرون الحكم العثماني تقلصت الى مجرد حارس للامن، وجاب للضرائب، وكلاهما لم يكن محبوبا من الناس والافضل الابتعاد عنه بحيث تطور لدينا فكر يقول ان الوطني الحقيقي ليس من يوالي الدولة ويدعمها بل ذاك الذي يعارضها وهو تراث سيىء نشاهده احيانا في افعال وكتابات بعض مثقفينا اليوم.
عبر التاريخ كان عماد دولتنا المشرقية الجيش: الجيش وتوابعه من الاجهزة الامنية والذي كان يقف على أساسه دوما الحاكم مهما كان لقبه، وفي الجيش ضبط وربط واصول واوامر لا مجال للنقاش فيها الامر الذي عززه على مدى القرون الخمسة الاخيرة توسع الاستعمار الغربي وتعدد اساليبه في التحكم مباشرة او احيانا عن بعد، والجيش بحاجة الى قائد لا تجوز مساءلته بل له الطاعة.
في مثل هذه الاجواء استكان المجتمع الى تعدديته في نظام الملل والنحل الذي كان، وما زلت اعتقد انه من اجمل سمات حضارتنا العربية الاسلامية والمتقدم بخطوات كثيرة على احادية المذهب في المجتمعات الاوروبية التي قامت بعيد حلف وستفاليا 1648 حيث اتخذت الدولة القومية الحديثة في كل من اسبانيا والبرتغال وايطاليا وفرنسا مذهب الكاثوليكية وحاربت كل ما عداه الى عهد قريب وحيث تجد انه حيثما حصل توازن مذهبي ما بين الكاثوليك والبروتستنت كما في المانيا استقر الكاثوليك في جنوب البلاد والبروتستنت شمالها وحيث اذا ما حصل توازن عرقي كما في بلجيكا او حتى سويسرا اخذت الاقليات حيزا جغرافيا خاصا بها ومنفردا عن الاخرين.
ولكن ومع الاعتراف بفضل نظام المِلل والنحل عندنا والذي كان من الممكن ان يتطور ليصبح نموذجا للعالم لو تطور مجتمعه الواسع في العراق وسوريا مثلا الا انه وصلنا مجتمع ساكن راكد امتدادا للمجتمع الواسع حوله لم تقم مجتمعات الملل والنحل بتطوير نفسها بل استكانت الى ما هي فيه: مجتمع يخاف التغيير ولا جرأة لديه على المغامرة وتسود فيه كما تسود في المجتمع الواسع قيم السترة والقناعة والقسمة والنصيب والاستسلام حتى القول: «اليد التي لا تقدر عليها، بوسها ولكن ادعي عليها بالكسر».
من كان يجرؤ ان يخالف الوالد او الكبير او شيخ العشيرة او القبيلة؟ من كان يقدر على تجاهل العرف والعادة؟ وكيف لنا ان نفسر استمرار بعض القيم غير الصحيحة التي لا تزال تجد من يدافع عنها بقوة؟.
اعتقد ان التغيير السريع والمضغوط الذي حصل عندنا على مدى جيلين على الاكثر والذي اخذ عددا من القرون في بريطانيا واوروبا مثلا ما زال عاملا اساسيا في اسباب الورطة الحضارية والمراوحة في مكاننا الذي نحن فيه.
قبل ان ننتقل من القرى والبوادي الى المدن كان لدى معظمنا هوية واحدة او هويتين. اما اليوم فقد تعددت الهويات لدى الشخص الواحد بحيث يصعب احيانا على الفرد ان يقرر اي واحدة منها تسمو على الاخريات.
واضح ان انتقالنا من البوادي والارياف الى المدن يعني اكثر من مجرد تغيير في عنوان السكن واذا ما اضيف الى هذا الامر الزيادة السكانية الانفجارية على مدى الخمسين عاما الماضية وتعاظم توقعاتنا ومتطلباتنا التي تتوقع الدولة ان تقدمها لنا لتبدي لنا على الاقل جانبا آخر من جوانب التعقيدات التي اصبحت عادية والتي دخلت مجتمعاتنا فجأة ودون ان نتوقعها. الدولة التي حالها كحال مواطنيها في حيرة وبلبلة!
منذ نهاية الحرب العالمية الاولى لم تعرف لا شعوبنا ولا دولنا طعما لراحة البال او الطمأنينة ولو للحظة واحدة بل يبدو وكأن جو الازمة الخانقة يزداد تلبدا بمقدار عجزنا عن التصدي المعقول له.
للديمقراطية متطلبات تبدأ من التربية في الاسرة بحيث يحترم الكبير الصغير ويستمع لرأيه ويشجعه على التفكير المستقل وابداء الرأي والامر اكثر اهمية في المجتمع الاوسع حيث لا بد من تربية الناس وتعليمهم على ضرورة احترام رأي وشخص الآخر وفوق ذلك كله ان على الدولة نفسها وعلى جميع مستوياتها ان تتعلم استشارة واحترام رأي الناس في الامور العامة. وجميع هذه المتطلبات التي لم تكن في تراثنا السياسي او الاجتماعي بحاجة الى زمن لتضرب جذورها في النفوس والديمقراطية ليست وصفة طبية او سحرية تصبح حقيقة بمجرد ان يقوم مجتمع ما باعتماد دستور مدون اذ بمقدار اهمية اقناع الناس بان لمشاركتهم فعالية وانها بالفعل ضرورية لحياة افضل.
وكل هذا بحاجة الى جهد وزمن ولكنه لا بد من التأكيد اننا في الاردن نسير على الدرب الصحيح وان كان يبدو للبعض وكأنه سير بطيئ.
الرأي
مدار الساعة ـ نشر في 2017/08/19 الساعة 00:24