رسالة في ليلة القدر
الذين اقتتلوا من العرب فيما بينهم، أو كانوا مجرد حطب في حرائق المنطقة، كانوا قادرين على تحرير فلسطين والاندلس وبوركينافاسو وبكين الصغرى، لكنها دماء يتم سفكها دون غاية.
تذكرت هذا الكلام، وأنا أتابع حرب “العشر الأواخر” في السودان العزيز، حيث يقتتل العسكر، ويقتلون بعضهم البعض، ويروعون الشعب السوداني، والذي هو من أطيب الشعوب العربية، ولا يحترم الفرقاء حرمة شهر رمضان، ولا عيدا، بل يواصلون حربهم حتى داخل الأحياء السكنية.
وفي التوقيت ذاته يتجمع أكثر من 280 ألف مصل ومصلية داخل الحرم القدسي، ليلة القدر، يبرقون برسالة إلى إسرائيل وغيرها، أننا ها نحن، بخيرنا وشرنا، وقوتنا وضعفنا، نعرف لماذا نأتي هنا، ولماذا نعيش، ولماذا قد نرحل بسبب الاحتلال، مثلا، أو أي ظرف آخر.
هذه ليست مقارنة بين السودان وفلسطين، بل مطابقة لصورتين، وقراءة للفروقات وكيفية فهم الوجود، والحياة والموت، وهاي قابلة للتعميم، على كل قصص العالم العربي، من الحروب الأهلية، إلى حروب الصراع على السلطة، إلى الحروب المفتعلة مع دول الجوار، مرورا بحروب الفساد والنهب وغياب العدالة، والتجهيل والتضليل والظلم والتسلط والتمييز وغياب الحريات الأساسية، وتدني جودة الحياة، والتعليم، وخدمات الصحة، فوق الفروقات بين التواقيت، وبين ما تواجهه شعوب عربية من مآس مستمرة، وما يواجهه الشعب الفلسطيني، تحت الاحتلال.
أنا ضد المبالغة في توصيف أي شعب، بشكل إيجابي أو سلبي، وضد محاولة أسطرة الفلسطينيين وكأنهم من دم أزرق، فهم مثل خلق الله، فيهم كل شيء، لكنهم بحق يدركون أين أولوياتهم، برغم كل المآخذ التي قد تقال عن حروب التنظيمات فيما بينها، أو التنافس، أو التقاسم، لكن مشهد ليلة القدر في القدس، يقول أن هؤلاء يدركون ما هية معركتهم الأساس، ويعرفون أن حياتهم مهمة جدا للمدينة والحرم القدسي والمسجد الأقصى، مثلما أن تضحياتهم بالدم مهمة جدا، ولولا الدم لما كانت الحياة، ولا “الاستدامة الوطنية” في هذه المدينة.
لا يلفت الانتباه مشهد في الحرم القدسي، في كل الأيام والليالي، وتحديدا ليلة القدر، مثل مشهد النسوة، اللواتي يتجمعن في الأقصى لصلاة التراويح، وليلة القدر، وكما هو معروف فإن مسجد قبة الصخرة وساحاته تحديدا، مخصص للنسوة، وحين ترى الصور التلفزيونية والفوتوغرافية، لا يخطر في بالك إلا أمر واحد، وهو السؤال حول منسوب الجرأة في قلوب النسوة هناك، والكل يدرك أن الذهاب إلى الأقصى محفوف بالخطر، إذ في لحظة قد يقتحم الاحتلال المسجد، ويقتل ويروع، ويعتدي وهذا حدث آلاف المرات في حياتنا، لكنهن يذهبن، ويعلمن أولادهن منذ الطفولة، ان هذا الموقع فوق الحسابات الفردية، ولا تصح فيه حسابات الخوف، ولا التردد.
وما دمنا نتحدث عن الأشقاء في السودان، فإن مشاعرك مختلطة، تأسف على ما يصير فيهم، وهم الذين عاشوا مع أكثر من 17 انقلابا عسكريا، منذ استقلال السودان عام 1956، وتسأل نفسك لماذا يكون مكتوبا على الإنسان العربي أن تضيع حياته وموارده ويخسر روحه في هكذا معارك، لا قيمة لها، وإذا كنا سابقا نؤمن بكون هذا الدم مرهون للقضايا العربية الكبرى، فلم نعد نمارس هذا الترف، وكل ما نريده أن يحظى الإنسان العربي في بلده بفرصة حياة تليق به، بدلا من كل هذا الخراب، فلا عاشوا لبلادهم، ولا لأمتهم، وهذه والله مفارقة كبرى في هذا الزمن.
الدم العربي المسفوك في السودان، والدم العربي المسفوك في كل مكان، كان كفيلا بغسل العار، عار الاحتلال، لكنه لم يفعل، ولم يتركه أحد ليفعل، وتكفينا هنا رسالة ليلة القدر من القدس، التي أبرقها مئات الآلاف، لرفع معنوياتنا، وإعادة التذكير بكل الأولويات.