ساعات في وسط البلد
امضيت ساعات في وسط البلد، وإذا وصلت عمان القديمة، قبل الإفطار بساعة، تكتشف أن المدينة عامرة بكل هذا التدفق البشري، وسط أجواء جميلة، وحركة على غير العادة.
لعمان تاريخها وقصصها وجبالها وأهلها، مدينة لها سرها عبر التاريخ، مثل طائرة الفينيق، كلما غابت عادت، وآلاف البشر من الأفراد والعائلات يتوزعون على موائد الأرصفة، ينتظرون طعام الإفطار، في المطاعم الشعبية المعروفة، والتي تعد جزءا من ذاكرة عمان التاريخية والشعبية.
تجول مشياً لمدة تزيد على الساعة، وكأن كل جبال عمان انتقلت إلى وسط البلد، بالكاد تمشي، واللافت للانتباه أعداد السياح الأجانب، فهم في كل مكان، وتلاحظ أن الكل يبتسم في وجههم، ويشاركون موائد الصائمين تناول الطعام، ساعة أذان المغرب.
عمان مضاءة بكل هذه الزينة، تذكرت القاهرة، ولياليها الطويلة في رمضان، وزينة خان الخليلي وسيدنا الحسين، وتجمع الناس في تلك المنطقة، وبقية مناطق القاهرة، فرمضان في مصر له مذاق مختلف، وفي القاهرة له تاريخ، يعرفه من عاش في مصر، أو يعرف حياة من فيها، من الأشقاء المصريين، ومن عرفها من العرب والأجانب على مدى تاريخ ممتد.
المكتبات العشق القديم الجديد، باعة الكتب الذين لم يعودوا هنا، ورحلوا، وتركوا مكتباتهم علامات إنسانية في عمان، هنا في هذه المكتبة أو تلك كنا نشتري الكتب الممنوعة والمهربة والمنسوخة في سنوات الدراسة الجامعية، وما كان ممنوعا بات موجودا، والا فالإنترنت يوفره بكل السبل ووسائل فك الحجب في أسوأ الأحوال، وهناك باعة العصائر والحلوى، وباعة الخواتم والحجارة الكريمة والفضة، والتحف والتذكارات، وملابس النساء التراثية، الأثواب المطرزة والمدارق، هنا وجه الأردن، بكل تكثيفاته، وجماليات التنوع فيها، ولا أجمل من التنوع في حياتنا.
أدراج عمان قصة بحد ذاتها، ومن درج إلى درج، كنا نتنقل في سنوات المراهقة، والجامعة، وما زلنا نصعدها لكن ارواحنا مثقلة هذه الأيام، وهذا يثبت أن الجسد ليس هو المشكلة، قد يصاب المرء بالوهن في جسده، لكن روحه إذا كانت صلبة تعبر به كل الأدراج والطرقات.
لأول مرة الاحظ أمرا غريبا، أكثر من خمسة نماذج بشرية، صبية عشرينية، رجل سبعيني، شاب ثلاثيني، ورجل في الخمسينيات، وربما سيدة قاربت نهاية الستينيات يمشون فرادى، كل واحد في جهة، لكنهم يتحدثون مع أنفسهم بصوت مرتفع، السبعيني كان يلبس ثوبا عربيا، وبيده عصا، يتكئ عليها، ولا أظن له فيها مآرب أخرى، لكنه ينظر إلى السماء، ويتحدث بعصبية شديدة، ويشتم شخصا ما، والصبية تحرك يدها اليمنى، بطريقة وكأنها تلوح مودعة أحد ما، وحين يتحدث الناس مع أنفسهم من أعمار مختلفة، تدرك كم أصبح عمان مدينة، لم تعد قرية، وأمراض المدن نعرفها جميعا، من فقر وقهر، ومظالم تحت الرماد، تنفجر على الالسن.
صوت المؤذن يعلن دخول المغرب، يهدأ وسط البلد قليلا، عدا قلة من السيارات، تنسيك عمان القديمة رغبتك بالطعام، تفكر بكل هذه المباني القديمة، حكايات أهل المكان، والتجار، وعابري السبيل، كم شهد هذا المكان مرور بشر خلال عقود، رأيت فيه كل شيء، من العراقيين بعد حرب الخليج عام 1990، والأشقاء السوريين، والمصريين، والسوادنيين، وكان لبعضهم مقاهيهم الخاصة، فوق سوق الذهب أو في مواقع ثانية، هي عمان ام جامعة، بكل ما تعنيه الكلمة.
أحب عمان، لكن الحياة فيها صعبة، وتريد من يحتملها، أعود إلى بيتي بسيارة تاكسي، يسالني السائق هل لديك سيارة أصلا، أقول له، ان وسط عمان، لا يحتمل المجيء بسيارة خاصة، فهي للمشي فقط، ويحدثك كيف يواصل العمل خلال ساعة الافطار، ولا يتوقف، ويفطر على حبة تمر وجرعة ماء وكأس قهوة وسيجارة لعينة، ويؤجل إفطاره إلى الليل حتى يعود، فأتذكر اننا كنا سابقا قبل سنين طويلة نشقى من أجل إيجاد تاكسي، لكن ضيق العيش اليوم، جعل السائقين يعملون ليل نهار، وفي ساعات الإفطار، والأعياد، حتى يغطون التزاماتهم المالية.
الوسط التجاري في وسط عمان يعاني من مشاكل كثيرة، وزيارة وسط البلد تنعش هذا القطاع، وهو وسط قابل للتطوير، شريطة عدم منحه لشركة تطوير متغربة، بل من خلال تجميله، وزيادة جرعة التراث والتطوير فيه، ليبقى تعبيرا عن روح هذه البلاد، التي وجدت بأمر الله لتبقى حية.