ما حكم ارتفاع الصوت عند البكاء في الصلاة أو الدعاء؟

مدار الساعة ـ نشر في 2023/03/10 الساعة 17:31

مدار الساعة -السؤال:عندما أصلي وحدي في قيام الليل أحيانا أدعو بحرقة، وأبكي، فيرتفع صوتي بالدعاء في السجود من غير قصد، والله لا أتحكم في نفسي، وأيضا عندما أكمل الصلاة أرفع يدي، وأدعو الله عز وجل فيرتفع صوتي لنفس السبب الأول، وأجاهد أن أخفض صوتي، ولكن يرتفع في كل مرة، كلما بكيت، فهل يعد هذا من الاعتداء في الدعاء؟

ملخص الجواب

إذا غلب الحالُ صاحبَه، فظهر منه صوت بكائه أو دعائه: فلا حرج عليه في ذلك كله.

الجواب

الحمد لله.

أولا:

إذا رزق الله تعالى عبده الخشوع في الصلاة، ورقة القلب، فبكى من خشية الله ، فتلك نعمة عظمى من نعم الله تعالى على العبد، وإن ارتفع صوته بالبكاء فلا حرج عليه في ذلك، ما دام يفعله مغلوبا عليه، بلا تكلف منه.

قال البخاري رحمه الله : باب إِذَا بَكَى الإِمَامُ فِى الصَّلاَةِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ وَأَنَا فِى آخِرِ الصُّفُوفِ يَقْرَأُ : ( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ ).

وروى (716) عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِى مَرَضِهِ : ( مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّى بِالنَّاسِ)، قَالَتْ عَائِشَةُ : قُلْتُ : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِى مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ ... إلى آخر الحديث.

قال ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" (2/206):

"(قَوْلُهُ : بَابُ إِذَا بَكَى الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ)

أَيْ : هَلْ تَفْسُدُ أَوْ لَا؟

وَالْأَثَرُ وَالْخَبَرُ اللَّذَانِ فِي الْبَابِ: يَدُلَّانِ عَلَى الْجَوَازِ ...

وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أقواها دليلا : أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ مُطْلَقًا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ.

قَوْلُهُ : (سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ) النَّشِيجُ ، قَالَ ابن فَارِسٍ : نَشَجَ الْبَاكِي يَنْشِجُ نَشِيجًا، إِذَا غَصَّ بِالْبُكَاءِ فِي حَلْقِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِحَابٍ، وَقَالَ الْهَرَوِيُّ : النَّشِيجُ صَوْتٌ مَعَهُ تَرْجِيعٌ، كَمَا يُرَدِّدُ الصَّبِيُّ بُكَاءَهُ فِي صَدْرِهِ ، وَفِي الْمُحْكَمِ : هُوَ أَشَدُّ الْبُكَاءِ .

وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ : (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ).

رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ ، وَصَحَّحَهُ بن خُزَيْمَة وبن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ .

وَالْمِرْجَلُ : الْقِدْرُ إِذَا غَلَتْ ، وَالْأَزِيزُ : هُوَ صَوْتُ الْقِدْرِ إِذَا غَلَتْ . وَفِي لَفْظٍ : (كَأَزِيزِ الرَّحَى)" انتهى .

وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في "فتح الباري" له (5/134، 135) :

"والنشيج : هوَ رفع الصوت بالبكاء . قاله أبو عبيد وغيره ...

(قالت عائشة : قلت : إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء) .

مقصوده من إيراد هذا الحديث في هذا الباب : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، مع تكرار القول لهُ أنه إذا قام مقامه لا يسمع الناس من البكاء ، فدل على أن البكاء من خشية الله في الصلاة لا يضر الصلاة ، بل يَزينها ؛ فإن الخشوع زينة الصلاة ...

وقد اختلف العلماء في البكاء في الصلاة على ثلاثة أقوال : ...

وما تقدم عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يدل على أن البكاء في الصلاة من خشية الله حسن جميل ، ويقبح أن يقال : لا يبطلها ؛ فإن ما كانَ زينة الصلاة وزهرتها وجمالها؛ كيف يقنع بأن يقال فيهِ : غير مبطل ؟ ولم يزل السلف الصالح الخاشعون لله على ذَلِكَ .

روى الإمام أحمد في "كتاب الزهد" بإسناده ، عن نافع ، قالَ : كانَ ابن عمر يقرأ في صلاته ، فيمر بالآية فيها ذكر الجنة ، فيقف عندها فيدعو ويسأل الله الجنة .

قالَ: ويدعو ويبكي. قالَ : ويمر بالآية فيها ذكر النار، فيدعو ويستجير بالله منها.

وبإسناده ، عن ابن أبي ملكية ، قالَ صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة . قالَ : وكان إذا نزل قام ينتظر الليل ، فسأله أيوب : كيف كانت قراءته ؟

قالَ: قرأ: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ق/19.

فجعل يرتل، ويكثر في ذَلِكَ النشيج.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده ، عن القاسم بن محمد ، قالَ : كنت غدوت يوما فإذا عائشة قائمة تسبح - يعني : تصلي - وتبكي ، وتقرأ : فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27 ]. وتدعو وتبكي، وترددها. فقمت حتى مللت القيام ، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت، فإذا هي قائمة كما هي، تصلي وتبكي.

والروايات في هذا عن التابعين ومن بعدهم كثيرة جدا ، وإنما ينكر ذَلِكَ من غلبت عليهِ الشقوة ، أو سبقت لهُ الشقوة "انتهى .

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ما حكم رفع الصوت بالبكاء في صلاة التراويح وغيرها علماً بأنه قد يسبب تشويشاً للآخرين؟

فأجاب :

"لا شك أن البكاء من خشية الله عز وجل من صفات أهل الخير والصلاح، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخشع في صلاته ويكون لصدره أزيز كأزيز المرجل ، وقال الله تبارك وتعالى: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (الإسراء: 109).

فالبكاء عند قراءة القرآن، وعند السجود، وعند الدعاء من صفات الصالحين، والإنسان يحمد عليه، والأصوات التي تسمع أحياناً من بعض الناس هي بغير اختيارهم فيما يظهر، وقد قال العلماء رحمهم الله: إن الإنسان إذا بكى من خشية الله، فإن صلاته لا تبطل، ولو بان من ذلك حرفان فأكثر. لأن هذا أمر لا يمكن للإنسان أن يتحكم فيه، ولا يمكن أن نقول للناس : لا تخشعوا في الصلاة ولا تبكوا.

بل نقول: إن البكاء الذي يأتي بتأثر القلب مما سمع، أو مما استحضره إذا سجد؛ لأن الإنسان إذا سجد استحضر أنه أقرب ما يكون إلى ربه عز وجل كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) .

والقلب إذا استحضر هذا وهو ساجد، لا شك أنه سيخشع ويحصل البكاء، ولا أستطيع أن أقول للناس : امتنعوا عن البكاء، ولكني أقول : إن البكاء من خشية الله والصوت الذي لا يمكن للإنسان أن يتحكم فيه لا بأس به، بل كما تقدم البكاء من خشية الله تعالى من صفات أهل الخير والصلاح" انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (14/244) .

ثانيا :

الأفضل في الدعاء أن يكون بصوت خافت ، وقد أثنى الله تعالى على عبده ونبيه زكريا عليه السلام بقوله : (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) مريم/3.

ولكن .. إذا غلب الإنسان على البكاء ورفع الصوت ، فإنه لا حرج عليه ، ولا يكون ذلك اعتداء في الدعاء .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

"وَمَا يَحْصُلُ عِنْدَ السَّمَاعِ وَالذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ مِنْ وَجَلِ الْقَلْبِ وَدَمْعِ الْعَيْنِ ، وَاقْشِعْرَارِ الْجُسُومِ ، فَهَذَا أَفْضَلُ الْأَحْوَالِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

وَأَمَّا الِاضْطِرَابُ الشَّدِيدُ ، وَالْغَشْيُ وَالْمَوْتُ وَالصَّيْحَاتُ: فَهَذَا إنْ كَانَ صَاحِبُهُ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ، لَمْ يُلَمْ عَلَيْهِ ، كَمَا قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، فَإِنَّ مَنْشَأَهُ قُوَّةُ الْوَارِدِ عَلَى الْقَلْبِ مَعَ ضَعْفِ الْقَلْبِ ، وَالْقُوَّةُ وَالتَّمَكُّنُ أَفْضَلُ كَمَا هُوَ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ ، وَأَمَّا السُّكُونُ قَسْوَةً وَجَفَاءً فَهَذَا مَذْمُومٌ لَا خَيْرَ فِيهِ" انتهى من "مجموع الفتاوى" (22/522) .

وينظر جواب السؤال (145807)

والحاصل:

أن الحال الأكمل في ذلك كله: أن يكون فيما بين العبد وربه، فيكون دعاؤه تضرعا، بصوت خفيت. ويكون بكاؤه كذلك، نشيجا فيما بينه وبين ربه، مخفيا.

وإذا غلب الحال صاحبه، فظهر منه صوت بكائه، أو دعائه، فلا حرج عليه في ذلك كله، بل الخشوع والخضوع محمود، وقسوة القلب والجفاء: أمر مذموم، مرذول. والأكمل في كل أمر: حال النبي صلى الله عليه وسلم ، وهديه.

والله أعلم .

مدار الساعة ـ نشر في 2023/03/10 الساعة 17:31