استعراض
ليس لدي مشكلة أبدا مع الكلاب الضالة, أنا مشكلتي مع الكلاب الأليفة.. مع شوارعنا التي امتلأت بها, مع الصبايا اللواتي يذهبن للمشي بصحبة الكلب, والشباب الذين يعتقدون أن (كسدرتهم) بصحبة كلب فكه يشبه محرك (الفوكس فاجن).. يعتبر أمرا راقيا.
في أزمة كورونا وحين كنت أخرج في شارعنا لممارسة المشي, كلب طاردني كان يسير مع صبية في أول العشرين, لم تستطع السيطرة عليه.. وأنا لا أجيد الركض كثيرا, فقفزت في صندوق (بكم) مركون بجانب الشارع... المشكلة عادية هنا, ولكن الأمر غير العادي... هو أن تصرخ تلك الصبية على كلبها قائلة: (لاء عمو... عيب روكي.. عمو), تبين لي أني عم (روكي).
لو أن الذين (يكسدرون) مع كلابهم في شوارع عمان, يؤمنون حقا بحقوق الحيوان ويؤمنون حقا بأهمية الحفاظ على التوازن في الطبيعة لقبلت بأن أكون عم روكي, لكن القصة تعدت ذلك إلى الإستعراض... فنحن صرنا نشتري الكلاب كي نستعرض بها في الشارع, ونركب سيارات (الرنج روفر) أيضا من أجل الإستعراض, ونقيم حفلات الميلاد لأطفالنا في قاعات الفنادق الفاخرة لأجل الإستعراض, ونلتقط صورنا في إسطنبول وإيطاليا وننشرها على الفيس بوك لأجل الإستعراض... حتى أطفالنا بدلا من تعليمهم ثقافة الطبيعة وغرس الأشجار, والأيام التطوعية في خدمة المجتمع, ?رنا نعلمهم ثقافة المول والموبايل والماركات.
في فلسطين يعلمون أولادهم النضال, ويخرج شاب مثل عمر أبو ليلى في الثامنة عشر من عمره كي ينفذ عملية يستغرب منها الغرب, لأنه كان يعتقد أن (رامبو) مجرد خيال سينمائي أنتجته (هوليوود).. ولكن هذا الفتى تبين أنه حقق ما عجزت عنه (هوليوود), وسؤالي هل انتج هذا الشهيد في المولات.. هل كان يمتلك كلبا و(يكسدر) به في شوارع نابلس أو جنين.
القصة ليست في الكلاب, القصة في الإستعراض المجتمعي الذي صار نمطا من أنماط حياتنا.. القصة في الكلاب الأليفة التي ينفق عليها ملايين الدنانير سنويا من أجل اطعامها.. من أجل أن يكون لها دفتر مطاعيم, ولأجل أن تزور عيادة الطبيب البيطري... القصة أيضا في أن الجانب الاخر الذي يدافع عن حقوق الكلاب الضالة, نسي أن يدافع عن حق المجتمع في أن يأمن من الخوف... وظن أن استنساخ المشهد الغربي في قضية الكلاب, قد يكسبهم اهتمام المجتمع ويقدمهم بصورة إنسانية.. حتى هذه القضية لدينا صارت تخضع للإستعراض.
مشكلتنا في الأردن أن كل الذين يقدمون تنظيرا باتجاه نقد الدولة وتعرية عيوبها.. وكل الذين يمارسون المعارضة بأقسى أشكالها, وكل الذين يقاتلون لأجل دولة مدنية... وكل الذين امتهنوا الفكرة الغربية والرؤية الغربية في تطوير الدولة والمجتمع, نسوا أن أهم شيء لدى النخب السياسية والفكرية.. هو: نقد المجتمعات, نحن ننتقد الحكومة, ننتقد مجلس النواب, ننتقد السلطة, ننتقد الأمن, ننتقد المؤسسات, ننتقد الوزارات.. ولكنا لم نقدم نقدا لأنفسنا كمجتمع, لم نقدم نقدا للظواهر السلبية وثقافة الإستعراض التي غزتنا..
كم اتمنى لو نعيد قراءة عبدالرحمن الكواكبي, الذي تحدث عن غفلة المجتمع.. وعلل أسباب الفساد والخراب والإنهيار اعتمادا على الغفلة التي تعيشها المجتمعات.. للعلم الطغيان نحن من نصنعه, والفساد نحن من نؤسس له, والخراب نحن من نمهد له..
يقول عبدالرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الإستبداد: (النصح لا يفيد شيئا إذا لم يصادف إذنا تتطلب سماعه).
Abdelhadi18@yahoo.com