أزمة الموروث
مدار الساعة ـ نشر في 2023/02/22 الساعة 09:37
في طفولتي كانت الشاشة الأردنية تعرض: موفق بهجت, فؤاد غازي, فهد بلان, عازار حبيب, طوني حنا.. وغيرهم من الفنانين الذين برزوا نهاية السبعينات ومنتصف الثمانينات.
كان سعدون جابر أيضا يظهر كثيرا على الشاشة, كنت اشعر برائحة الرجولة في أغانيه... وحين تقول مثلا أن فهد بلان (زلمة), فأنت تقصدها لأنه كان يصعد على المسرح لأداء رسالة, فيها التراث وفيها الحمية.. وفيها محاولة استرداد الروح المعنوية لدى الشعوب العربية التي ذاقت الهزيمة تلو الأخرى.
في ذات الوقت برزت فرقة مغربية أيضا اسمها (ناس الغيوان), من قلب الحي المحمدي الأكثر فقرا في العاصمة المغربية وغنت لفلسطين, وأعادت احياء الروح المعنوية فينا من جديد.
في لجة الغناء المقاتل, والفن الملتزم برز تيار ليبرالي في الأغنية العربية... وكان هذا التيار قد شكل ثورة جديدة عنوانها (المياصة), الكلمة كانت رديئة جدا.. والمطرب تخلى عن الأداء الرجولي والشوارب, وصار يظهر بسلسلة ذهبية في اليد وأخرى في العنق, ناهيك عن ظهور فرقة راقصة خلفه تمثل حالة انحدار غريب, بملابس غريبة أيضا, تم تفصيلها على يد (طوبرجي).
راغب علامة, حميد الشاعر, عمرو ذياب وغيرهم... بدأوا بالظهور على التلفاز, كانوا يقدمون أنفسهم باعتبارهم تيار الحداثة الجديد في الأغنية العربية, وكانوا يركزون على الشكل وليس على اللحن أو الأداء, مثلا كنت تلمح أن الفنان قد خضع لعملية مكياج قبل دخوله الإستديو... وكنت تلمح أيضا عمليات تقنين للحواجب, ونعومة مفرطة... ناهيك عن (الولدنه) والضحكات غير المهذبة, مع اطلاق (غمزات) حقيرة... كنت أسأل نفسي هؤلاء يا ترى لو حشروا مع شفيق جلال أو فهد بلان في بيت شعر بعيد عن الحياة والمدينة ماذا سيحدث لهم؟.
المشكلة أن ظهورهم على الشاشات أدى إلى سلوك عدواني لدى الاباء, فحين كنت مثلا استمع لأغنية راغب علامة:- (اسف حبيبتي انسي اللي فات)..كان أبي يرمقني بنظرة غريبة ثم يقول لي: (بدك اتصير مثلو)... بعد ذلك يلحق تعليقه بشتيمة قاسية, ثم يقوم بطردي... وأحيانا كان يجعل منفظة السجائر تحلق فوق رأسي دون إصابة الهدف...
المهم أن هذا التيار كان يثير غضب الاباء, وحتى الأمهات كان غضبهن يستفز.. خصوصا حين يغني حميدي الشاعر (حبيبة يا حبيبة)... كن يعتبرن هذا الأمر انقضاضا على الأخلاق يساهم فيه التلفاز عن قصد.
فيما بعد كبرت وقرأت كتب علي الوردي, قرأت محمد عابد الجابري, جورج طرابيشي... نصر حامد أبو زيد, ميشال فوكو وغيرهم..
أغلب المفكرين العرب ركزوا على الصراع بين الشرق والغرب في أزمة الموروث, أزمة تخلي العقل العربي عن الموروث أو ارتهانه له, وربما الصراع الذي دار بين محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي كان يصب حول هذا الموضوع بالتحديد غير أن طرابيشي انحاز للشام والجابري انحاز للمغرب العربي باعتباره الجغرافيا التي حاولت التحرر من عقدة الموروث.
أنا أختلف مع كل هؤلاء المفكرين.. واعتقد أن أزمة انهيار العقل والمجتمع في العالم العربي تعود للإنقلاب على فهد بلان وفؤاد غازي, وعازار حبيب وموفق بهجت وشفيق جلال.. وانتاج راغب علامة وعمرو ذياب وحميدي الشاعر..
Abdelhadi18@yahoo.com
كان سعدون جابر أيضا يظهر كثيرا على الشاشة, كنت اشعر برائحة الرجولة في أغانيه... وحين تقول مثلا أن فهد بلان (زلمة), فأنت تقصدها لأنه كان يصعد على المسرح لأداء رسالة, فيها التراث وفيها الحمية.. وفيها محاولة استرداد الروح المعنوية لدى الشعوب العربية التي ذاقت الهزيمة تلو الأخرى.
في ذات الوقت برزت فرقة مغربية أيضا اسمها (ناس الغيوان), من قلب الحي المحمدي الأكثر فقرا في العاصمة المغربية وغنت لفلسطين, وأعادت احياء الروح المعنوية فينا من جديد.
في لجة الغناء المقاتل, والفن الملتزم برز تيار ليبرالي في الأغنية العربية... وكان هذا التيار قد شكل ثورة جديدة عنوانها (المياصة), الكلمة كانت رديئة جدا.. والمطرب تخلى عن الأداء الرجولي والشوارب, وصار يظهر بسلسلة ذهبية في اليد وأخرى في العنق, ناهيك عن ظهور فرقة راقصة خلفه تمثل حالة انحدار غريب, بملابس غريبة أيضا, تم تفصيلها على يد (طوبرجي).
راغب علامة, حميد الشاعر, عمرو ذياب وغيرهم... بدأوا بالظهور على التلفاز, كانوا يقدمون أنفسهم باعتبارهم تيار الحداثة الجديد في الأغنية العربية, وكانوا يركزون على الشكل وليس على اللحن أو الأداء, مثلا كنت تلمح أن الفنان قد خضع لعملية مكياج قبل دخوله الإستديو... وكنت تلمح أيضا عمليات تقنين للحواجب, ونعومة مفرطة... ناهيك عن (الولدنه) والضحكات غير المهذبة, مع اطلاق (غمزات) حقيرة... كنت أسأل نفسي هؤلاء يا ترى لو حشروا مع شفيق جلال أو فهد بلان في بيت شعر بعيد عن الحياة والمدينة ماذا سيحدث لهم؟.
المشكلة أن ظهورهم على الشاشات أدى إلى سلوك عدواني لدى الاباء, فحين كنت مثلا استمع لأغنية راغب علامة:- (اسف حبيبتي انسي اللي فات)..كان أبي يرمقني بنظرة غريبة ثم يقول لي: (بدك اتصير مثلو)... بعد ذلك يلحق تعليقه بشتيمة قاسية, ثم يقوم بطردي... وأحيانا كان يجعل منفظة السجائر تحلق فوق رأسي دون إصابة الهدف...
المهم أن هذا التيار كان يثير غضب الاباء, وحتى الأمهات كان غضبهن يستفز.. خصوصا حين يغني حميدي الشاعر (حبيبة يا حبيبة)... كن يعتبرن هذا الأمر انقضاضا على الأخلاق يساهم فيه التلفاز عن قصد.
فيما بعد كبرت وقرأت كتب علي الوردي, قرأت محمد عابد الجابري, جورج طرابيشي... نصر حامد أبو زيد, ميشال فوكو وغيرهم..
أغلب المفكرين العرب ركزوا على الصراع بين الشرق والغرب في أزمة الموروث, أزمة تخلي العقل العربي عن الموروث أو ارتهانه له, وربما الصراع الذي دار بين محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي كان يصب حول هذا الموضوع بالتحديد غير أن طرابيشي انحاز للشام والجابري انحاز للمغرب العربي باعتباره الجغرافيا التي حاولت التحرر من عقدة الموروث.
أنا أختلف مع كل هؤلاء المفكرين.. واعتقد أن أزمة انهيار العقل والمجتمع في العالم العربي تعود للإنقلاب على فهد بلان وفؤاد غازي, وعازار حبيب وموفق بهجت وشفيق جلال.. وانتاج راغب علامة وعمرو ذياب وحميدي الشاعر..
Abdelhadi18@yahoo.com
مدار الساعة ـ نشر في 2023/02/22 الساعة 09:37