الانضباط المالي والنمو المطلوب
حل المشاكل المالية العامة يتطلب وضع برنامج وطني للإصلاح المالي والاقتصادي يبدأ بوضع موازنة شفافة تعكس الأرقام الحقيقية لعجز الموازنة والمديونية، وتأخذ بعين الاعتبار تسديد جميع الالتزامات المستحقة وغير المدفوعة وتخصيص الأموال اللازمة للإنفاق بدقة، وتلزم جميع المؤسسات بالإنفاق ضمن السقوف المرصودة تحت طائلة المسؤولية والمحاسبة.
كما يجب قصر الإنفاق الرأسمالي على المشاريع قيد التنفيذ ومشاريع الصيانة ومشاريع النقل العام ، والتوجه إلى الإنفاق الرأسمالي المنتج.
لا بد أن يتضمن البرنامج الوطني خطة تفصيلية لمعالجة الاختلالات المالية المتمثلة بالإعفاءات الطبية، ودعم الجامعات، ودعم السلع والخدمات، والتهرب المالي الرسمي بكافة أشكاله، وكل هذه الاختلالات لها حلول، لكنها بحاجة إلى اتخاذ القرارات الصعبة لمعالجتها.
يجب أن يتضمن البرنامج الوطني- بعد السير بعمليات الإصلاح المالي الداخلي- إعادة النظر في هيكلة العبء الضريبي بحيث يتقلص تدريجياً الاعتماد على الضرائب المباشرة كنسبة من مجمل العبء لصالح الضرائب المباشرة التي هي أكثر عدالة، وتنسجم مع القواعد الدستورية التي تتطلب أخذ قدرة المكلف على دفع الضرائب وحاجة الحكومة إلى المال وتصاعدية الضريبة، وعلينا أن نبدأ اليوم، ولو بخطوات قصيرة على هذا الطريق.
وهذا يقودنا للنمو الاقتصادي الذي سيكون الرافعة الرئيسة لتحقيق التنمية المستدامة، والتي تتطلب سلوكيات وإجراءات رسمية للنهوض بها بشكل متوازن مع عملية الإصلاح المالي، لكن قد تكون هناك مجموعة من العوامل التي تقف دون رفع معدلات النمو بالشكل المطلوب، والتي تتطلب تدخلاً رسمياً لمعالجتها من أبرزها:
أولاً: المزاج العام السلبي الذي أصبح يشكك في الإنجازات والسياسات، ويطعن في نزاهة المسؤولين وقدرتهم؛ مما كون انطباعاً سلبياً عن الأردن وحكوماته والعاملين في القطاعين الخاص والعام، ويتردد سؤال على ألسنة الكثيرين: إلى أين نحن ذاهبون؟ وهذا المزاج السلبي أدى إلى تراجع الإنفاق على الاستهلاك من قبل المواطنين، رغم محدوديته وتحفظ القطاع الخاص على الاستثمار أو التوسع في مشاريعه القائمة، زادت الشكوى والتذمر وقل الشكر، وأقول: الحمد لله على نعمه وهي في الأردن كثيرة لا ينكرها إلا الجاحد.
ثانياً: فيما يتعلق بمديونية الأفراد المرتفعة بالنسبة لدخولهم، إذ أظهرت الدراسات أن (63%) من دخل الفرد يذهب لسداد قروضه السكنية وقروض السيارات التي أصبحت تشكل ضرورة ملحة لحياة المواطن في غياب النقل العام، وهذا زاد من ضعف قدرة المواطن على الاستهلاك.
ثالثاً: ضعف تنافسية الاقتصاد الوطني؛ بسبب ارتفاع كلف الإنتاج من عمالة وطاقة ونقل وتمويل.
فارتفاع كلفة العمالة الناتج عن ارتفاع تكلفة الضمان الاجتماعي الذي تصل اقتطاعاته إلى (22,5%) من مجمل الرواتب والأجور والعلاوات التي يتقاضاها العامل.
وفي اعتقادي أنه آن الأوان لدراسة هذا الأمر بهدف المحافظة على الحقوق المكتسبة وطرح برامج تأمين اجتماعي بتكلفة أقل وامتيازات أقل، ويترك لصاحب العمل والعامل الاتفاق على البرنامج المناسب للقطاع الذي يعمل فيه ضمن الإمكانيات المالية المتاحة له، والتي تحافظ على جدوى مشروعه.
رابعاً: ارتفاع كلفة الطاقة يعود إلى اتفاقيات شراء الطاقة من شركات التوليد بأسعار مرتفعة مقارنة بأسعار الطاقة المتجددة، كما يعود إلى تكلفة خدمة ديون شركة الكهرباء الوطنية ودفع ثمن فائض الإنتاج الذي يصل إلى 25% من الطاقة المولدة دون استخدامه.
وبسبب ارتفاع كلفة نقل البضائع نتيجة الملكيات الفردية للشاحنات وبطاقة تفوق حاجة السوق بأكثر من (40%) ولغايات تشغيل هذه الشاحنات، فقد تم تقييد حمولة الشاحنة الواحدة بحاوية واحدة عوضاً عن طاقتها الاستيعابية الفعلية، فارتفعت كلفة نقل الحاوية من العقبة إلى عمان لتصل إلى أكثر من كلفتها من سنغافورة إلى العقبة.
وكذلك ارتفعت تكلفة نقل الأفراد من أماكن سكناهم إلى أماكن عملهم أو جامعاتهم بسبب غياب النقل العام المنتظم والمناسب.
والعامل الأخير يتعلق بالبيئة التشريعية والبيروقراطية في أجهزة الدولة والإجراءات المتعددة، وفي بعض الأحيان غير الضرورية في المعاملات الحكومية، والتي أثرت على صورة الأردن كدولة جاذبة للاستثمار.
السير في معالجة التشوهات السابقة سيكون رفعة مضمونة لتعزيز الإصلاح المالي المستهدف والنمو الاقتصادي المطلوب، وسيكون المشهد الاقتصادي العام واضحاً للجميع، مما يعزز بيئة الاستثمار، ويقوي دخل الدولة وينوعه.