شتان بين استثمار.. واستثمار
أرأيت كيف يتصرف الاستثمار في بلدنا؟
لا أقصد، أبدا، رأس المال الوطني الشريف ،الذي يضعه المستثمرون الاردنيون الصادقون في خدمة بلدهم، ولا رأس المال الأجنبي، الذي يضع إمكانياته وخبراته في مشروعات انتاجية كبرى ،على قاعدة " أُفيد أستفيد"، ويدخل من ابواب مشروعة ، ثم يلتزم بالقوانين المحلية ، ولا يمنّ علينا أو "يحمّلنا جميلة ".
ما أقصده هو بعض الذين نزلوا على الاستثمار بمظلة "اكسب واهرب"، أو الآخرين الذين فتحوا دكاكين خدمات لتصريف ما لديهم من بضائع، لدينا منها ما يكفي ويزيد، ثم اعتبروا بلدنا محطة مؤقته لاستثماراتهم، هؤلاء الذين لم يترددوا - كلما دقّ عليهم القانون أية مخالفة - عن تهديدنا بتسريح العمالة، أو بالخروج إلى بلدان أخرى، يمثلون وجه الاستثمار المغشوش، الذي لا نحتاجه، ولا نريد أن نعرفه.
شتان ،إذا ً ،بين استثمار يتوعد ويهدد بالهروب، أو يخرج من "بالوعات" الفساد ، وبين استثمار محترم نظيف ، ينجز وينتج ويضيف ، الصنف الثاني هو ما نبحث عنه ،ونرحب به ، ونُشّرع من أجل استقطابه -كما تفعل كل دول العالم - ما يلزم من قوانين وأنظمة ، فنحن فعلا بحاجة إليه في كل وقت ، وفي هذا الوقت بالذات ، وهو موجود ، وإن كان ما زال شحيحا ومترددا احيانا ، لكن أعتقد انه سيأتي ، إذا ما تصرفت إدارات الدولة مع اصحابه من المستثمرين الجادين ، بمنطق العدالة والشفافية ، ومصلحة البلد أولا.
لدي ّ، ولدى القارئ الكريم أيضا، ما يكفي من أمثلة لنمط الاستثمار الذي يتنمر على القانون ، ويوزع إهاناته على المجتمع و إدارات الدولة ، ويتجبّر على أبنائنا الذين يعملون في خدمته، ثم يحاول أن يقايض بين وجوده واستمراره، وبين صرف النظر عن تجاوزاته ، حتى لو كانت كبيرة، حالة "الاستقواء "هذه وجدت من يغذيها في سياق البزنس الإعلامي، أو بسبب الظروف الاقتصادية التي نمر بها ، وخاصة تصاعد أعداد العاطلين عن العمل، وأغرت، للأسف، بعض تجار الاستثمار بمحاولة امساكنا من اليد التي توجعنا، والتلويح بالإساءة لسمعتنا الاستثمارية ، وهذه الظاهرة يجب أن تتوقف، وأن تُواجه بالقوانين الحازمة، لا بتطييب الخواطر.
قصة بلدنا مع الاستثمار تبدو غريبة ، وأحيانا مريبة وموجعة، وفيها من الألغاز ما نعرفه وما لا نعرفه، البيروقراطية الإدارية واحدة من المعوقات ، اغواءات الفساد وشروطه ومصائده إعاقة ثانية، ومن المفارقات أننا ندفع ضريبة فشل الاستثمار من جيوبنا ومن الخزينة ، مشروع العطارات للصخر الزيتي- مثلا - تحول إلى كابوس ، حيث اضطررت الحكومة العام الماضي لدفع( 200) مليون دينار أتعاب تحكيم للخلاص منه (تصور!)، بعض النخب في المجتمع تشكل ، احيانا ، إعاقة ثالثة ، حين تدرج كل مشروع استثماري قادم في دائرة الفساد ، وتشيّعه بتهمة بيع أصول البلد ، تشريعات ومرجعيات الاستثمار المتعددة والمعقدة شكلت ، أيضا ، عقبه بوجوه المستثمرين ، كل ذلك أرجو أن نتجاوزه في المرحلة القادمة .
باختصار ، استقامة معادلة الاستثمار في بلدنا تحتاج ، أولا ، لاستقطاب رأس المال الوطني ، الثروة التي يمتلكها بعض الأردنيين بالداخل والخارج ،وهي بالمليارات ، تستطيع أن تحرّك اقتصاد بلدنا وتنعشه، لو وجدت من يفتح لها الابواب المشروعة ، ويحميها من العاديات (!)، تحتاج ،ثانيا، لانتصاب موازين العدالة والقانون ، بحيث لا يتنمر الاستثمار علينا ، ولا تستفزه أيضا إداراتنا العامة ، بما فيها من بيروقراطية، تحتاج ،ثالثا ، إلى بيئات سياسية واقتصادية مستقرة ومشجعة ، و مجتمع نابض بالحيوية ، وإلى مشروعات انتاجية كبرى ، تفرز من البلد أفضل ما لديه من موارد، ومن الأردنيين أجود ما لديهم من كفاءات وابداعات، وتعود على الاطراف كلها بالخير والنمو والازدهار.