المنخفضات الجوية قديماً في بيرين... (الجزء الأول)

عبدالله محمد الغويري
مدار الساعة ـ نشر في 2023/02/04 الساعة 02:23
كانت المنخفضات في زمنٍ مضى أشدّ وطأة.. وأعتى ضَراوة، كان الثلج يتساقط في وادي بيرين ولا تستطيعُ الجاذبية الأرضية مُجاراتهِ، كانت قلوب الناس أشدّ بياضاً منه.. وكانت عيونهم ناصعة أكثر من بلوراته، كانت الأمطار غزيرةً.. ثقيلةً.. مُنْهمرةً بلا هَوَادة، كانت محبة الناس لبعضهم هي أكبر مِدفأة..وأضخم نار.. وأحْلَك جَمْرة، وكانت لهفتهم على بعضهم أسرع من الرياح العاتية.
لم يكن يُهِمُّهم إتجاه الريح بقدر ما كان يعنيهم هُبوبها، ولم تكن درجات الحرارة ذات قيمة عندهم بقدر ما كان يُهِمُّهم الشعورُ بها. حينما ينتهونَ من حَرْثِ الأرضِ ونَثْرِ البذور في (تشرين) تكون السماء (مِفْجِيَة) وخاوية من السَّحَاب.. وقتها يُردِّدونَ معاً - وبصوتٍ تكسوهُ الشَّفقة:
يالله الغيث يا ربي......... تروي زريعنا الغربي.
يا الله الغيث يا دايم........ تروي زريعنا النايم.
يا الله الغيث يا رحمن... تسقي زريعنا العطشان.
يا الله الغيث يا ربي ............. خبزي قَرْقَدْ بِعُبِّي.
وما أنْ تمر أيام، وتبدأ مربعانية الشتاء، وتنخفِض الحرارة، وتَتقلَّب الأجواء، وتَرْتَبِك الرطوبة، وتَسْتنفِر الدَّوابُّ والأغنامُ، ويَتقلّص طول النّهار، ويتمدَّد الليلُ، ولِسانُ حالهم يقول: أيُّها المُقبِلونَ على الشتاء.. تَحلَّوْا بِالبَرْدِ..!!.
كان المُختار خليف سليم الغويري (رحمه الله) يعرفُ أخبار الطقس من خلال (الراديو) الذي يَمْلِكُهُ، ثم يَخرجُ على الناس في بيرين ويخبرهم عن الأحوال الجوية المُقبلة، ويُحذِّرُهُم من شدة الأمطار والثلوج القادمة على المنطقة من جزيرة قُبْرص، كانوا يستغربونَ من ذلك.. ويتعجَّبونَ مما يقول.
كانوا يَظُنّونَ أنَّ ذلك المُختار يَتَقَمّصُ النّبُوة ويَدَّعِي عِلْم الغيب.. أو أنَّهُ جاء بِدينٍ جديد، ولكن ؛!!..وما أنْ تَمْضي لَيْلَتيْنِ أو أكثر حتى تُزَمْجرَ الريح.. ويَتَجَهَّم الجَوّ.. وتزدحمَ السماء بالغيومِ.. ويَفُور التَّنُّورُ.. ويسيل الوادي.. وتنشقُ المُنحدرات.. وتفيض السُّهول.. ويتراكم الثلج كأنّهُ (لِحافٌ سميكٌ) يُدثِّرُ الأرضَ الجَدْباء.
رَغْمَ البَرْدِ الذي يَتغشَّاهم والجُوعِ الكامنِ في أمعائهم إلّا أنَّهم كانوا سعيدينَ بماء المطر يتسللُ إلى ملابسهم وبطَّانياتهِم وفِراشهِم وصُحُونهِم وقُدُورهِم، كانوا سعيدينَ به وهو يُطَبِّلُ على أسقف بيوت الطِّين والقُصّيب التي ينامونَ تحتها.
رغم الجوع والبرد.. كانوا سعيدينَ وهم يختبئونَ رِفقة أغنامهم في (المَغَارات) من هَوْلِ الأمطار - ويَبْقُونَ معها يُهَلِّلُونَ ويَحْمِدونَ ويُسبِّحُونَ في العتمةِ الباردةِ حتى هَزِيع الفجر، كان البَرْقُ هو ضِيائهم في الليل.. وكان صوت الرَّعدِ هو النَّاطق الإعلامي بإسم السماء.
رَغْمَ الجُوعِ الكافرِ والبَرْدِ المُسْتَبدِّ الذي يُحاصِرُ وادي بيرين إلّا أنَّهم كانوا فَرحينِ بِزائرِهم الأبيض وهو يُغطَّي أرضهم ويَجْثِمُ فوق حُقُولِهم، كثيراً ما كان ذلك الضيفُ ثقيلَ الدَّمِ ويستمرُ لِبضعة أيامٍ.. وأحياناً يأتي أكثرَ من مرة خلال الموسم الشتوي الواحد، كانوا بشوشِينَ لَهُ وهو يُطْبِقُ عليهم أبواب بيوتهم.. وكيف وصلت سماكتهُ أعلى من نصف أجسادهم.
كانوا يقطعونَ فصل الشتاء بقدرة عزيز، ويشكرونَ الله كيف اجتازوا قسوة (سِعْد الذَّابح)، وكيف غاصت الأمطار أمامهم تحت الأرض في (سِعْد بَلَع)، وكيف أصبحَ زرعهم أطول من بواريدهِم في (سِعْد السّعُود)، وكيف خرجت الأفاعي من جُحورِهَا في (سِعْد الخَبَايا)، كانوا يرفعونَ رقابهم إلى السماء ويقولوا: يا ربّ نحمدكُ... كيف عَبَرنا كل ذلك..؟!!.
يتبع....
مدار الساعة ـ نشر في 2023/02/04 الساعة 02:23