مكرم القيسي
مدار الساعة ـ نشر في 2023/01/03 الساعة 01:23
جاء مكرم القيسي من فرنسا وزيرا للسياحة, مكرم هو الأقرب في الشكل لمصطفى القيسي.. وهو الأقرب في الصوت والسلوك والحركات، وتظن أن العيون واحدة..
اتذكر زمن مصطفى جيدا, كان زمن توقيع معاهدة السلام.. وكانت سخونة الشارع في أعلى درجاتها, والفولفو لا تغادر مجمع النقابات.. وكنا فتية في أول النضج ولا نعرف أين نتجه إلى اليسار الغاضب أم إلى الإسلاميين أم.. إلى: (هذا ما وجدنا أهلنا عليه)..
يتهمونني أحيانا أني أغرق في الكتابة عن الذين رحلوا... على العكس أنا لست ضد دورة الزمن ولكني أحب مكرم لأني أرى مصطفى فيه.. هذه هي كل القصة, هو يذكرني به.. وبالليالي التي كان يأتي فيها ممدوح الحوامدة–رحمه الله–لمنزل الباشا, وبالمشاوير التي كنا نذهب فيها للمزرعة.. وبالحديث الهادئ الرصين.
هل شاهدتم ضابط مخابرات يحب الرسم؟.. مصطفى باشا القيسي–رحمه الله–كان كذلك, فقد اصطحبني معه ذات مرة, من أجل حضور افتتاح معرض لوحات لفنان من العراق.. وتجولنا في المكان, كان يقف عند كل لوحة ويسألني عن مضامينها.. وأنا كنت اجتهد في التفسير.. وحين وقفنا عند لوحة غريبة طغى عليها اللون الأسود والأحمر, تهت في المضامين وحاولت أن (أتثاقف).. قليلا, فأخبرت الباشا أن هذه اللوحة تعبر عن نفسية الفنان.. المتعبة الحزينة, ولكنه أخبرني بأن تحليلي غير ذلك تماما.. هذه اللوحة تعبر عن مجزرة ملجأ العامرية..
حين غادرنا المكان سألته: كيف عرفت مضامين اللوحة باشا؟ فأخبرني بأنه عمل في شعبة البحث والتحليل مطولا حين كان ضابطا, ولكنه ضحك.. ثم قال لي: حين دخلنا وزعوا علينا كتيبا صغيرا يتحدث عن كل لوحة في المكان وأنا قرأت الكتيب وعرفت منه معنى اللوحة, أنت لم تقرأ شيئا مضيت في النظر للجدران والناس...
مصطفى القيسي في حياته لم ينظر للجدران كان ينظر لما خلف الجدران, فقد عمل في زمن النار والرصاص, وكانت الطلقة الغادرة من الممكن أن تأتيه من أي اتجاه.. ولكنه مضى في الحياة فقد ولد في عصر كانت لمبات الكهرباء معدومة والناس كانت تنام على ضوء (الفنيار).. ولد في زمن كان للرغيف فيه قيمة وللتراب قيمة, وللمسدس المركون تحت الحزام قيمة.
اتذكر أنه ذات يوم أحضر لي جريدة، كانت تصدر من عاصمة عربية.. وتصدر اسمه صفحتها الثانية كان العنوان: الجزار مصطفى القيسي يوغل في الدم.. حين أكملت الخبر شعرت أنهم ربما تاهوا في الوصف فقد سرقوا من أوصاف هتلر وأسقطوها على الباشا, يومها قال لي: نحن لم نسفك دما كنا نصنع استقلالنا الثاني ونبني مؤسساتنا.. ونحمي الشخصية الوطنية الأردنية التي ولدت مجددا.
اضعف كثيرا أمام سيف حابس المجالي, ومكرم القيسي, وعدنان بهجت التلهوني.. وناصر اللوزي... ليس لذواتهم فقط, ولكنهم يحملون دم رجال.. كانوا في المسؤولية حين كانت الدنيا من دم ونار.. وحين كانت البلد, بين حرب وحرب.. وحين كانت الإنفجارات الغادرة والطلقات الغادرة لا ترحم أحدا..
من لا يعرف ولا يحترم التاريخ، حتما سيتوه في المستقبل.
كان أهلنا يقولون: (كرمال عين تكرم مرج عيون)..
Abdelhadi18@yahoo.com
اتذكر زمن مصطفى جيدا, كان زمن توقيع معاهدة السلام.. وكانت سخونة الشارع في أعلى درجاتها, والفولفو لا تغادر مجمع النقابات.. وكنا فتية في أول النضج ولا نعرف أين نتجه إلى اليسار الغاضب أم إلى الإسلاميين أم.. إلى: (هذا ما وجدنا أهلنا عليه)..
يتهمونني أحيانا أني أغرق في الكتابة عن الذين رحلوا... على العكس أنا لست ضد دورة الزمن ولكني أحب مكرم لأني أرى مصطفى فيه.. هذه هي كل القصة, هو يذكرني به.. وبالليالي التي كان يأتي فيها ممدوح الحوامدة–رحمه الله–لمنزل الباشا, وبالمشاوير التي كنا نذهب فيها للمزرعة.. وبالحديث الهادئ الرصين.
هل شاهدتم ضابط مخابرات يحب الرسم؟.. مصطفى باشا القيسي–رحمه الله–كان كذلك, فقد اصطحبني معه ذات مرة, من أجل حضور افتتاح معرض لوحات لفنان من العراق.. وتجولنا في المكان, كان يقف عند كل لوحة ويسألني عن مضامينها.. وأنا كنت اجتهد في التفسير.. وحين وقفنا عند لوحة غريبة طغى عليها اللون الأسود والأحمر, تهت في المضامين وحاولت أن (أتثاقف).. قليلا, فأخبرت الباشا أن هذه اللوحة تعبر عن نفسية الفنان.. المتعبة الحزينة, ولكنه أخبرني بأن تحليلي غير ذلك تماما.. هذه اللوحة تعبر عن مجزرة ملجأ العامرية..
حين غادرنا المكان سألته: كيف عرفت مضامين اللوحة باشا؟ فأخبرني بأنه عمل في شعبة البحث والتحليل مطولا حين كان ضابطا, ولكنه ضحك.. ثم قال لي: حين دخلنا وزعوا علينا كتيبا صغيرا يتحدث عن كل لوحة في المكان وأنا قرأت الكتيب وعرفت منه معنى اللوحة, أنت لم تقرأ شيئا مضيت في النظر للجدران والناس...
مصطفى القيسي في حياته لم ينظر للجدران كان ينظر لما خلف الجدران, فقد عمل في زمن النار والرصاص, وكانت الطلقة الغادرة من الممكن أن تأتيه من أي اتجاه.. ولكنه مضى في الحياة فقد ولد في عصر كانت لمبات الكهرباء معدومة والناس كانت تنام على ضوء (الفنيار).. ولد في زمن كان للرغيف فيه قيمة وللتراب قيمة, وللمسدس المركون تحت الحزام قيمة.
اتذكر أنه ذات يوم أحضر لي جريدة، كانت تصدر من عاصمة عربية.. وتصدر اسمه صفحتها الثانية كان العنوان: الجزار مصطفى القيسي يوغل في الدم.. حين أكملت الخبر شعرت أنهم ربما تاهوا في الوصف فقد سرقوا من أوصاف هتلر وأسقطوها على الباشا, يومها قال لي: نحن لم نسفك دما كنا نصنع استقلالنا الثاني ونبني مؤسساتنا.. ونحمي الشخصية الوطنية الأردنية التي ولدت مجددا.
اضعف كثيرا أمام سيف حابس المجالي, ومكرم القيسي, وعدنان بهجت التلهوني.. وناصر اللوزي... ليس لذواتهم فقط, ولكنهم يحملون دم رجال.. كانوا في المسؤولية حين كانت الدنيا من دم ونار.. وحين كانت البلد, بين حرب وحرب.. وحين كانت الإنفجارات الغادرة والطلقات الغادرة لا ترحم أحدا..
من لا يعرف ولا يحترم التاريخ، حتما سيتوه في المستقبل.
كان أهلنا يقولون: (كرمال عين تكرم مرج عيون)..
Abdelhadi18@yahoo.com
مدار الساعة ـ نشر في 2023/01/03 الساعة 01:23