جار الهنا
جاري فلسطيني من الضفة، وهو طيب وبسيط.. وقد وضع صورة لنابلس وأخرى للخليل في منزله, وأخبرني أنه من نابلس, وأم محمود زوجته من الخليل... جاري يحدثني كلما دعاني لشرب القهوة عن نابلس قبل ال (48).. ويتذكر شوارعها ومحلات الكنافة وأسماء العائلات.. ويحدثني عن رحلته للخليل من أجل خطبة أم محمود.
مؤخرا فرح جاري لأنهم سمحوا لهم بإحضار الزيت من الضفة, وظل يوما كاملا يشرح لي عن الزيت هناك.. وطعمه وكيف يشبه لونه لون الفجر, وكثيرا ما يفتح التلفاز ليسمع الأخبار التي تأتي من الضفة, وكلما تحدثوا عن شهيد.. ينادي على (أم محمود) يحدثها عن عائلة الشهيد ومن أي قرية.. هو يحفظ أسماء القرى والعائلات, وإذا تعثرت الذاكرة قليلا يهاتف (ياسر) ابن شقيقته في نابلس ويقول له: (ئلي يا خالو.. ئولي اللي استشهد اليوم مش من بيت حنون؟.. صح ولا أنا غلطان)..
جاري أيضا، يرسل لي كثيرا (الزعتر والمخللات) وأحيانا يرسل لي (حلاوة).. ويرسل لي أيضا الكثير من (المكدوس).. وحين نلتقي في الصباح يسألني: (ئولي كيف المئدوسات.. طيبين؟).. وأنا أقر بذلك, ويخبرني بأنها من البلاد, ويقصد من فلسطين.. كل شيء يأتي من فلسطين لديه مقدس.., اشعر أحيانا حين يرسل له الأقارب (مرطبانات المخلل).. اشعر أنه يريد أن يضعها في حسابه البنكي لكثرة ما هي عزيزة عليه, فهو يعتبر كل شيء يأتيه من هناك بمثابة هدية من السماء..
هو وحيد مع زوجته, والأولاد كبيرهم في كندا والأوسط يعمل في قطر.. والأصغر في أوروبا والبنت الوحيدة تزوجت وعادت لنابلس... وهو أيضا امضى سنوات من عمره في الخليج يعمل هناك, وعاد مؤخرا كي يستقر في عمان.. وغالبا ما يخبرني كيف أوصى أولاده بأن يدفنوه في نابلس, ويخبرني أن الإجراءات قد تكون صعبة.. ذات مرة قال لي: (إزا اليهود رفضوا ايدخلوا جثماني.. فكرك شو نعمل؟)...أخبرته: (بنجيبك على سحاب)..
هذه الأيام هو غارق في حزنه, لأن الأولاد كانوا يهاتفونه يوميا يسألونه عما يجري في الأردن وكانوا يخططون للعودة لكن الظروف لم تسعفهم.. ويسألونه عن شهداء الأمن العام والاحتجاجات... ويخبرهم بأن كل شيء على ما يرام, وحين يغلق الهاتف.. يبدأ بالحديث لي عن الشهيد الدلابيح وكيف تلقى الخبر, وغالبا ما يختم كلامه بالقول: (مثل الوردة هالشب الله يرحمو.. حرام حرام)..
امس التقينا في منزله لشرب القهوة, وكان يحدثني عن ساعة قديمة ورثها من والده.. وظل محافظا عليها يرتديها في ايام الشباب وما قبل التقاعد, اخبرني بأن هذه الساعة طافت نصف العالم تقريبا.. لأنه عمل في شركة نفط وكان يسافر كثيرا, وختم حديثه بالقول: (هذه الساعة ولدت في نابلس واستقرت في عمان).. وأنا سألته: يا جاري أنت تقصد أن والدك اشتراها من نابلس.. واستقرت معك في عمان... لكنه رفض وأصر على كلمة ولدت وقال لي: (في فلسطين الزمن يولد ولا يعبر علينا.. نحن بعكس العالم يعبر عليه الزمن ويتغير التوقيت.. إلا الفلسطيني فالزمن ه?الك يولد مثل الطفل... ومرة يكون زمن انتفاضة ومرة يكون زمن صمت ومرة يولد زمن للشهداء ومرة يكون للأقصى... نحن الذين نضع لكل زمن عنوانه وموعد ولادته...).
اقنعني العجوز برده.. وها أنا كل يوم أواسي جاري أبو محمود.. وأقول له حتما سيعود الأولاد بداية العام, ويفرح إن قلت له أن طعم (المكدوس) فاق التصور....
أنا مثلك يا جار الهنا.. مثلك تماما.
Abdelhadi18@yahoo.com