هذا هو الأردني.. كيف عبثوا به
منذ وعيت وأنا أسمع أن الأردني قبلي عشائري عصي على الرضوخ للدولة كمواطن يخضع لمظلة الحقوق والواجبات المدنية.
متأخرا أدركت أن السلطة السياسية خلقت ورعت هذه الصورة النمطية للأردني لتشهرها في وجهه وفي وجه العالم كلما طالب بحقوقه في المشاركة السياسية وفي إدارة دولته.
متأخرا عرفت أن هذه الصورة غير صحيحة، لأني متأخرا عرفت أبي.
أتحدث عن أبي وفي كل عشيرة أردنية عشرات من أبي، وفي كل قبيلة آلاف الرجال الذين يشبهون أبي.
أبو صايل، ولد في أم قيس عام ١٩٢٩ بعد ثماني سنوات من تأسيس إمارة شرق الأردن، وقبل ولادة المملكة الأردنية الهاشمية عام ١٩٤٦. في الشكل يضع على رأسه شماغا أحمر، ويرتدي ثوبا أبيض في الصيف وملونا في الشتاء.
نسبه الحسبان من قبيلة بني حسن الممتدة ديمغرافيا في الضفتين. سكن أجداده بيتا راسخا في أم قيس ما زالت حجارته قائمة في الحارة الفوقى وزرعوا أرضا ما زالت تربتها ترمي ثمرا. بقدر رسوخه في بلدته أم قيس كان واصلا للأقارب والعشيرة في الزرقاء وفي"حمامة" يشاركهم ويشاركونه الفرح والترح، وإحدى جداتي آمنة صايل الحسبان شقيقة إبراهيم صايل الحسبان وزير التربية والتعليم في حكومة الأردن العسكرية ١٩٧٠.
مثل آلاف الأردنيين عمل أبي عسكريا في جيش المملكة الأردنية الهاشمية يساهمون في بناء دولتهم الناشئة، يد تحمل البندقية و الأخرى تحمل الفأس،فلم يبع أرضه..
ومثل آلاف الأردنيين، أعال أسرة تجاوزت أصابع اليدين، في أول السبعينات اقتنى سيارة وشغلها على خط إربد أم قيس، ولم يبع أرضه.
ومثل آلاف الإردنيين ما إن وصل التعليم قريته أقصى الشمال حتى استجاب لنداء الحداثة، انخرطت بناته قبل الصبيان في المدارس وبعدها في الجامعات، شقيقتي الكبرى "نورهان" حصلت على الثانوية في أول السبعينات حاصلة على معدل يؤهلها دخول الجامعة الأردنية الجامعة الوحيدة حينها وما منعها كان البعد الجغرافي، ودرست في معهد عجلون للبنات. هل هذا أردني عصي على الحداثة والمواطنة؟!
الأردنيون الآباء قدسوا قيمتين، قيمة الحداثة حين انخرطوا مبكرا في التعليم، وقيمة المواطنة حين تمسكوا بالأرض. تجار الوطن عبثوا بهذه القدسية، بيعونا أرضنا لنشتري بثمنها تعليما مفسدا، فنخسر القيمتين الحداثة و الأصالة.
أبي مثل آلاف الأباء الأردنيين مارس مدنية السلوك والفكر قبل أن تولد منظمات المجتمع المدني و التمكين.
في السبعينات تعايشنا مع زوجة أخي الانجليزية تحت سقف بيت واحد، لا دين ولا لغة ولا قومية منعتنا من أن نحبها و تحبنا.
في الثمانينات هربت من عصا مديرة المدرسة لأنني في البيت تعلمت أن أرفض الضرب، علمني أبي الرفض قبل منظمات حقوق الإنسان.
بعد تخرجي دعمني للتقدم لوظيفة مضيفة طيران. فلم أحتج حركة نسوية لنيل حقوقي المدنية.
كان أبي مؤديا للفروض الدينية، ولكنه لم يتدخل يوما بشؤون عباداتنا لا بنتا ولا ولدا، لم ينتظر NGOs لتعلمه الإنسانية.
مثل آلاف الأردنيين خدم في الجيش الأردني، وبقيت فلسطين حتى وفاته مغروسة في وجدانه القومي. وفي حصار العراق في التسعينات مضى مع الأردنيين نحو بغداد.
مثل الأردنيين يتطلع للمثال والفروسية، أحب جمال عبد الناصر ومن بعده صدام حسين، ومن بعده حسن نصرالله، بوصلته عروبته، وعاش و مات أردنيا.
في الألفين فتح بيته وقلبه حتى للـ"هراريين " ولم يسلم عقله لفكر منغلق أو ظلامي. شربوا القهوة والشاي وجادلهم وجادلوه ولم يكفروا بعضا.
حين بدأ الاستثمار في الحارة الفوقى في أم قيس لم يرفضه، بل دعم استخدام بيت جده فكان من أول البيوت التي رممت وأعيد استخدامها كمصدر للتراث و كبيت للضيافة.
كان أبي يغني شعرا بدويا شجيا على الربابة، و يستذكر بحب وزهو حفلة صباح ودلعها في بيروت.
كان يجالس ويمازح ويسامر نساء الحارة والعائلة، وبالمثل تفعل أمي. ولم ينتظر الحركة النسوية تعلمه الاتيكيت.
لم أقل يوما أو لم أشعر يوما بحاجتي الملحة للقول أنني من عشيرة كذا أو من قبيلة كذا، حتى أمام من كان يتفاخر بجهل بعشيرته، ببساطة لأنني كنت أشعر أنني أمتلك ما يمنحني الثقة أكثر بنفسي، أمتلك العلم والتعليم والقدرة على تحصيل المتعة والمعرفة، والأهم أنني كنت وما زلت امتلك القدرة على الرضا، كان أبي مثل آلاف الآباء الأردنيين ونحن صغارا وشبابا نضغط عليه بالاستهلاك فيقول: ولك أنا عايش أحسن من (قائد).
عبثتم وتعبثون بنا: جعلتم منا جيل مخدرات، قروض، قيم استهلاك، تدين قاس... ولكن لن تعبثوا بصور آبائنا، فنحن لم ننسها بعد.