معركة الهوية
قد تكون كأس العالم الأخيرة بالدوحة هي أول كأس تُفجر ما يمكن أن نطلق عليه بمعركة الهوية، ليس مهمًا إن كان فريق الأرجنتين أجاد ويستحق الفوز العظيم، أو أن الفرنسيين كانوا أحق بالبطولة لكنها"ضربات المعاناة الترجيحية"، فالمعركة بدأت منذ أن صعد فريق كرة القدم المغربي إلى مربع الكبار الذهبي، كاسرًا ومحطمًا كل الأرقام، ومعبرًا ومتناسيًا كل الظروف والملابسات والعوامل، 14 لاعبًا من الفريق ليسوا من مواليد المغرب، ويعيشون ويلعبون بعيدًا عن الوطن الأم، لكنهم ارتبطوا بهذا الوطن، ورفضوا الانتماء للأوطان الأخرى التي هاجر إليها آباءهم وعائلاتهم، أصروا أن يكون للجذور كلمتها العليا، وللأصل العريق صفاته غير المتنحية جيلاً بعد جيل، حملوا علم بلادهم، ودافعوا عنه بكل وفاء وإتقان وجهد فني بارع، لم يستسلموا لآخر رمق، وأحرزوا المركز الرابع على العالم في بطولة كان الأربعة الأعظم فيها إما من أوروبا أو من أمريكا الجنوبية، حققوا أرقامًا مذهلة في الاستحواذ والفرص الضائعة، والتكتيك المهاري والفني والمدني رفيع المستوى.
أما المنتخب الفرنسي الذي عاد بقوة أثناء المباراة النهائية، فكان جميع البدلاء من ذوي البشرة السمراء، لم تفرق فرنسا بين أصلي أبيض ومهاجر أسمر، لم تقل لهم اجلسوا على مقاعد الاحتياطي فأنتم غير أصليين، أو أنتم وافدين، أو أنتم لستم منا، قالوا لهم انزلوا إلى أرض الملعب، فالكأس الغالية قد تضيع، وفرصة العمر قد تذهب أدراج الرياح، نزل اللاعبون البدلاء وبدلاً من أن يحكم الفريق الأرجنتيني قبضته على المباراة بعد الفوز في الشوط الأول بهدفين للاشيء، بدأت فرنسا تدخل إلى أجواء الشوط الثاني وهي محملة بالحماس وقبول التحدي، والنزول إلى نداء الوطن، ليس مهمًا من يدافع عن اللقب أبيض أم أسمر أم بَيْنَ بَيْن، وليس مهمًا إن كان مسلمًا أو مسيحيًا أو صاحب أية عقيدة كانت فالدين لله والوطن للجميع.
وبالفعل لم تكن فرنسا لقمة سائغة بين أقدام الأسطورة ليونيل ميسي ورجاله، وعادت فرنسا إلى المباراة في الشوط الثاني لتحرز التعادل في الوقت الأصلي بهدفين للغاني الجزائري الأصل كيليان امبابي، قام الرئيس الفرنسي ماكرون من مقعده وخلع "جاكت" بدلته، وصفق له بحرارة، وكان مشجعًا عاديًا وليس رئيسًا لأحد أهم الدول العظمى في العالم الكبير الآن، ودخل الفريقان وقتًا إضافيًا، وتعادل الكبيران بثلاثة أهداف لكل منهما كان امبابي هو الهاتريك العظيم في هذا النزال العظيم.
هذا التألق، وهذا التخلق، وهذا الفعل الأعظم كان بين أقدام من حملوا الهوية، ومن دافعوا عنها بقوة وإعزاز وإكبار، ولم يكن ماكرون بمعزل عن المشهد المهيب، عندما نزل إلى أرض الملعب ليحتضن امبابي بكلتا يديه مواسيًا إياه وهو يدرك أن هذا الأفريقي المدهش هو فرنسي، وأن هذا الجزائري من الأم هو من بلد احتلتها فرنسا لسنوات طويلة في القرن العشرين ولم تخرج منها إلا بعد أن فقدت الجزائر مليوني شهيد.
لقد نسي الجميع كل ذلك وأصبحت الهوية بمثابة حرب عالمية ثالثة ورابعة وخامسة، حرب على النفس وجهاد للنفس من أجل نقاء النفس وتصفية حسابات الماضي بقلم ملؤه الإيمان والانتماء، حب الإنسان أينما كان، وليست "عنصرته" ومن بعدها الطوفان.
انتهت كأس العالم، وترك المونديال في نفوسنا الكثير من الذكريات، والأكثر من المعارك التي يجب أن نخوضها من أجل أن تكون الهوية تكريساً للانتماء، وليس بـ"خندقة" هذا الانتماء، وأن تكون العادات والتقاليد ممتدة لكامل العنصر البشري، وليست مقتصرة أو منغلقة عن جنس أو عرق أو مذهب أو لون أو ملة من أية نوع، وأن تكون الهوية ممارسة وعشرة واحتراماً وولاء، أكثر من كونها تشبثاً بإقصاء الآخر، والكراهية له، وعدم احترام مناسكه.
ونحمد الله ونشكر فضله أن ديننا الإسلامي الحنيف يحثنا أنه لا فرق بين عربي على أعجمي إلا بالتقوى وصلابة الإيمان، وهنا كان يقصد المشرع أن يحثنا بأنه لا إكراه في الدين، ولا كراهية لمن يحملوا ديانات أخرى، بل أن التعايش والتسامح والمحبة والسلام هي شريعة هذا الوطن، وهي قاموسه المحيط ومختاره الصحيح، وحروف علته التي لا تسمح للبغضاء بأن تتسلل إلينا، وأن نتعلم من فرنسا والمغرب وغيرهما الكثير من العبر والدروس، لعلنا نجد فيما رأينا، ونعثر من بين ما شاهدنا على دروس ينبغي أن تحتويها مناهجنا، وتضمها تعاليمنا، وتألفها جامعاتنا.