الشهيد الدلابيح.. كان بين نارين

مدار الساعة ـ نشر في 2022/12/18 الساعة 01:44
مدار الساعة - بورتريه: إبراهيم السواعير - لمّا استقبل الشهيد العقيد الدكتور عبدالرزاق الدلابيح الرصاصة، خيّمَ على الآفاق سوادٌ فاحمٌ وطُعنت الإنسانيّة في الصميم. كان الدلابيح بين نارين: تهدئة الأمور والتعامل الطيّب الأخويّ مع الناس وأبناء العمومة والخؤولة والعشيرة والقبيلة الأردنيّة كلّها، وأداء الواجب والحزم في حفظ المطالب النبيلة لأبناء الوطن من أن تقع في مصيدة الفتنة والشّغب؛ وهما حدّان كان يدرك جيّدًا منذ أن اختار وظيفته أنّ الفاصل بينهما سيكون جسده الطاهر وعينيه اللتين ستريان هذا الوطن للمرّة الأخيرة؛ لذلك لم تجد الرصاصة أدنى عناء في الوصول إلى رأسه الشامخ بشموخ الأردنيين، الثابت بثباتهم، الواثق بأنّ ما قدّر الله على المرء حتمًا لا بدّ صائرٌ، فلم ينكص عن دوره وظلّ هدفًا تامّ الوضوح قريب الرؤية لمن أراد أن يثأر منه أو أراد أن يطلق عليه النار.
هذا الشّاب المنذور للشهادة هو أنموذجٌ مضيءٌ لكلّ أبناء المؤسسة العسكريّة والأمنيّة الأردنيّة في سعة صدرهم وطول بالهم وحسن أخلاقهم في التعامل مع الغريب؛ فكيف بهم حين يُمتحن صبرهم في رجاء ذوي القربى وأبناء الدم الواحد بأنّ كلّ المطالب في بلد أبي الحسين تُستجاب، وأنّ هذا البلد الذي تجاوز مدى التعبير فيه سقف السماء، إنّما هو جديرٌ بأن يُنتصفَ فيه للمظلوم ويُردّ الحقّ إلى أهله، لكنْ، من غير دماء زكيّة تذهب بفلذات الأكباد وكفاءات الوطن، وفي الطليعة منهم الشهيد الدلابيح الذي دعم سجلّه الوظيفي بسجلّه الأكاديميّ، على صعوبة المفاضلة أو الموازنة بين الأمرين معًا، فحصل على دكتوراة القانون الدولي، وكتب في المنظور الاستراتيجيّ للمحكمة الجنائيّة الدوليّة، ثمّ فجأةً انكسر الحلم وأجهزت الرصاصة على الأنفاس الطامحة إلى كلّ مفيد وحيوي وضروري لهذا البلد.
يا عبدالرزاق، أيّها القانونيّ الفذُّ الذي لم تُتح له الفرصة للدفاع أو لتبيان الرأي، سيرافع عنك غدًا في محكمة العدل الربّانيّة الدم الزكيّ الطاهر في قضاءٍ عادلٍ تشهد فيه الأرض الطهور والوجه الصبوح واليد التي لم تترك ما قبضت من مبادئ وقِيَم حتى عانقت التراب الغالي في مسقط الرأس بجرش، التراب الذي ابتلّ وتخضّل بدعوات ودموع الأهالي وجموع المشيّعين من أبناء الوطن يتقدّمهم قائدهم وحادي ركبهم جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله وولي عهده الأمين، وفي حين كانت القلوب تلهج بالرحمة والمغفرة والإحسان للشهيد، كان التصميم الوطنيّ كلُّه يتزايد في ألّا يراق دم الأردنيّ بيد أخيه الأردنيّ، وألا تتزايد مساحة الاختلاف إلا للصالح العام، وألّا يستقوي أحدٌ على أحد، وأن يُحترم القانون الذي يحفظ الحقوق ويمنع القتل وإزهاق النفوس البريئة الصادقة التي كان يُمكن أن ندّخرها لحماية وطننا وتعزيز أمنه والذود عنه.
يا عبدالرزاق، لقد حُقّ لبلدة الكفير بجرش أن تودّعك الوداع الأخير بكلّ ما في طرقاتها وبساتينها وأسواقها وبيوت أهلها الطيبين من ذكريات رحلت معك إلى حيث المثوى المحفوف بدعاء الملائكة وعطر الشهادة ودموع الأصدقاء والقريبين، وسيغدو قبرك يا عبدالرزاق كلّ ليلةٍ بدرًا منيرًا على كامل المنطقة، وسيظلّ أبناؤك يعتزّون في مدارسهم وجامعاتهم بأنّ لهم أبًا لم يولِّ الأدبار في مصلحة الوطن وحماية الناس والآمنين، وستظلّ أحلامك ماثلاتٍ يحققها أبناء القرية وزملاء الجهاز ورفاق الدرب.
ويا عبدالرزاق، ستظلّ "مؤتة" تذكُر ذلك الطالب النجيب المبادر بين أساتذته وزملائه، بل سيظلّ عام سبعةٍ وسبعين الذي خرجت فيه إلى الدنيا عامًا يتكرر فيه الحزن كلّما حلّت الذكرى أو هبّت على القلوب نسائم الأوجاع، فالوطن الذي يعرف أبناءه واحدًا واحدًا وغرس فيهم الحبّ والتوادّ والتراحم وحسن معالجة الأمور، يدرك جيّدًا أنّ يدًا غريبةً عنهم وعن نخوتهم وكرمهم وإنسانيّتهم قد أطلقت عليك النار.
يا عبدالرزاق، يا ابن كلّ الأردنيين، أعلمُ أنّك تودّ لو كان في العمر فسحةٌ لأداء واجبٍ أكثر، وأتفهّم حزن والدتك المصابرة وموقفها البطوليّ وهي يلوح لها في الأفق ألم الفقد الذي تكرر على قلبها الطاعن بالجراح المثخن بالآمال، القلب الذي ما عاد يحتمل،..وأشعر بما يشعر به ابنك الذي تحمّل المسؤولية مبكّرًا واستعار من سنواتك الطوال صبر الرجال.
أقفُ على مثواك في الليالي الأولى من استشهادك وأنت تتعرّف على المكان، فأحتسبُ عند الله، وهم يرددون: اللهم وسّع في قبره وأحسن نزله واربط على قلوب أهله وناسه وألهمهم من بعده جميل الصبر والسلوان، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
مدار الساعة ـ نشر في 2022/12/18 الساعة 01:44