عمر.. طفولتك إرث مشرف في الذاكرة

د.جودة مناع
مدار الساعة ـ نشر في 2022/12/09 الساعة 02:17
الألم الفلسطيني متشابه في مشاعره وأحاسيسه تجاه فقدان من نحب. هذا الصباح فقت لأتصفح التقارير الإخبارية التي تردني تباعا حول ما يجري في فلسطين ، من بين الأخبار كان نبأ اجتياح العدو الإسرائيلي لمخيم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين. المخيم الذي ولدت وكبرت طفولتي بين خيامه وتركت بقايا أقدامي الحافية على طرقاته الوعرة. خبر أخر يصلني مفاده استشهاد شاب وإصابة ستة شبان آخرين برصاص جنود العدو في المخيم.
في تلك اللحظات استنفذت قدرات الحاسة السادسة التي خلصت إلى أن أحد أبناء اخي يوسف قد يكون هو الضحية التالية في المخيم. لحظات ورد اسمه في تقرير آخر وصل إلى هاتفي النقال. إنه عمر. حينئذ ، أدركني الحزن لكنه هذه المرة يختلف عنه في الماضي. قد يكون هذا الألم مبررا ومبللا لمفاجأة دهمت وحدتي المنشغلة بهموم الناس في بلادي وتقديم في العمر واسفاري التي فرضتها علي مهنة الصحافة.
كان فجرا مشابها لفجر يعبد وعصر حوارة وجنين ومخيمها وشعفاط والقدس في قلب كل أبنائه. حزن وألم ودموع.
عمر يشبه من سبقه من الشهداء في ذاكرتي رغم أنه ابن أخي يوسف الذي كان أسيرا هو الآخر. إلا أنه ترك لمحات من طفولته في ذاكرتي. لم التقيه شابا.. آنذاك اعتدت على مشاهدته في حضن أبي "جده". يلهو معه في غرفة صغيرة وبيديه الحلوى التقليدية في المخيم. تلك الغرفة بنيت بديلا لغرفة الأنروا التي تآكل سقفها وجدرانها بعد مضي عقود على انشائها بعد النكبة.
لم أحظى بالحنان الذي أحاط أبي حفيده به ، ليس لأنه قاسيا بل لأن والدي أمضى معظم حياته إما في غرف الاعتقال أو السفر لعل الحظ يحالفه بتوفير فترة من الهدوء والأمن في حياته. حالة أسست لعلاقة تجاوزت عاطفة الأبوة بين الأب وابنه. أدرك أن فترات اعتقاله الطويلة كان لها أثرا عميقا في هذه العلاقة. لذلك أفهم ما يعني لي أن العرف والدي وانا في الصف الثالث من المرحلة الابتدائية عندما التقى وعيي به أول مرة.
لا اعرف الصفات الكثيرة عن عمر بل اعرف صوته الجهور الشاب. ضحكته المفعمة بالفرح بعد كلمات يرسلها لي عبر الهاتف بعد تحريره من الأسر وانتقاله إلى مرحلة النضوج عندما التحق بجامعة القدس المفتوحة. هكذا وجد عمر فسحة من الوقت للعمل في مخبز العائلة في مدخل المخيم يرد صباحاته على المغادرين إلى أعمالهم و أو العودة منها أو التسوق من بيت لحم الملاصقة للمخيم.
عمر... صانع الخبز اغتالوه ظنا منهم أن المخيم سيجوع بعد رحيله. ذلك المشهد رأيته لأول مرة؛ قطع العجين وطريقة فردها بين كفيه وابتسامة واثقة تنظر نحو المارة ثم يلحفها على مخدة ويقلبها على صاج ملتهب حتى تنضج فينزعها ويلقي بها إلى منضدة خشب إلى يساره.
رحل عن. وقلبي مع أخيه يزن وهو اسير سابق الذي اعتقله جنود العدو وانهالوا عليه بالضرب بأعقاب البنادق والركل باحذيتهم الثقيلة بعد أن فاجئه الجنود وهو غارق في النوم في غرفة جده.
لم يروق لعمر سماع صراخ أخيه بين لكمات الجنود الفاشلين. هب لنجدته لكن الجنود الأعداء رموه بتسع رصاصات غادرة نالت منه حياته. إنه الإعدام الذي يستوجب الثأر .
صنيع الاحتلال بممارساته البشعة لا تنتهي عند عمر ويزن تماما مثلما كانت في كل مدينة وقرية ومخيم. بل حلقة في سلسلة عدوان لن يستطيع كسرها سوى ابطالنا في فلسطين بشجاعتهم وإقبالهم إلى ميادين الشرف.
ورسالتي للفاشيين اليهود في إسرائيل هي أن الوقت لن يطول للعضو على اصابعكم. كنتم في قطاع غزة احتلالها أشد قسوة وإرهاب. لكن عزيمة ابنائنا العظماء كات كحبال المشانق على مستوطنات كم فاضطررتم على الهرب إلى جحوركم البكر في قلب فلسطين. هذا هو مصيركم أيها الاوغاد.
المجد للشهداء.. الشفاء لجرحانا البواسل.. الحرية لأسرانا الابطال.
مدار الساعة ـ نشر في 2022/12/09 الساعة 02:17