هل كان 'وصفي التل' فاشلاً؟
تصادف غداً الذكرى الحادية والخمسون لاستشهاد الرئيس وصفي التل على عتبات مؤتمر التضامن العربي في القاهرة..
وكي نقرأ واقع الحال اليوم فعلينا أن نعيد قراءة التاريخ الوطني، ليس للأردن فقط، بل ولجميع مجتمعات الدول العربية الممزقة بعد "سايكس بيكو"، ونشوء دول عربية صغيرة المساحة بالتزامن مع حادثة اغتيال الرئيس، إذ قامت الدول العربية الثلاث على شاطئ الخليج العربي وهي الإمارات وقطر والبحرين بعد رحيل الإنجليز عنها، واليوم بعد خمسين عاما على نشأتها نرى كم تعملقت اقتصاديا وسياسياً، وهذه مقدمة لقراءة حاضرنا وماضينا وكيف يصنع العظماء دولاً يشار لها بالبنان.
عندما تسلم الملك الراحل الحسين بن طلال مقاليد الحكم كان غضاً ولكنه تمتع بذكاء فطري وبذات سياسية عبقرية، حيث هادن التيارات السياسية التي انخدعت بفكرة القومية وتوشحت برداء الحزبية البلشفية والامتداد الخارجي لدول حكمت بمبدأ الحزب الحاكم، وكان يدرك تماما أنه يحكم بلداً صغيراً شيئاً ما، أمام دول شقيقة أكبر وأقوى، ولكنه قرر خوض معركة البقاء ليواجه مخطط تلك الدول لتقسيم الأردن وكينونته، وحتى يصمد فقد قرر إنهاء الوجود البريطاني كي لا تكون مثلبة سياسية تطارده، ومن فوره توجه الى الولايات المتحدة وأقام علاقات قوية معها، فهي القوة الأكبر كما كان يراها.
الحسين ببعد نظره لم يواجه الموج العاتي، فقد مرت عليه حكومات تشكلت في بداية عهده على مضض، ولكنه كان يتربص باللحظة المواتية لخلق حكومة يقودها رئيس معجون من طينة بلاده وأمّته ومتحرر الفكر دون خلفية انحيازية لدول ترى الأردن حديقة جرداء، فجاء بعدد ممن رأى فيهم صلاحاً حتى كان آخرهم هزاع المجالي الذي اغتيل هو الآخر عام 1960، ومن هناك بدأ يدرك أن أي حكومة لا يرأسها عملاق مستقل ستبقى خداجاً، ومن هناك كلف الرئيس وصفي التل برئاسة أول حكومة 1962، ليرى بعدها كيف أشرقت الشمس على بلد كان يلفه الضباب السياسي والخداع العربي.
واجه التل العالم الخارجي بكل نديّة، فيما انكب على إعادة بناء منظومة الدولة بكفاءة عالية، وبكل بساطة قرر فورا قلب كل صفحات الماضي وطيّ أذيالها، فقد طلب من مجلس الأمة إصدار قانون للعفو العام عن كل المدانيين والمعتقلين والفارّين والضباط الذين حكمت عليهم المحاكم بتهمة محاولة قلب نظام الحكم في أحداث عامي 1957 و1958، ومنهم من عادوا ليصبحوا نجوماً فيما بعد، ولكن التل بشخصيته الطاغية وفكره السبّاق للأحداث وسرعة إنجازه لم يعجب العديد، ففي كل مرحلة لا بد من خروج الناهشين، ولكنه لم يخضع لأي شروط، فهو صاحب الصّول والطول، فأصدر عددا من القوانين لحماية المُلكية الوطنية وحماية الطبقة الشعبية من جور المرابين الذين كانوا يفتكون بالمجتمع، كما كان "عرار" يصفهم.
الرئيس التل، ضم بالإضافة لرئاسته الحكومة منصب وزير الدفاع ووزارة الزراعة، ومن هنا تتضح صورة الأهمية القصوى في عقل الرئيس للحفاظ على إحدى أهم ركائز الاقتصاد ممثلة بالزراعة وحماية الملكيات الزراعية بعيدا عن تفتيتها وحظر أي بناء خارج المدن والقرى، وفي حكومته الأولى تم تأسيس الجامعة الأردنية الأولى في الأردن ومنع التوسع بالمدارس الخاصة، وشيد سد الملك طلال الذي أحيا آلاف الدونمات من خلال الاستصلاح الزراعي في الأغوار، وشق قناة الغور الشرقية، وتوسع في الزراعات الحرجية، وأعاد هيكلة الشركات الكبرى كالفوسفات والبوتاس اللتين أصبحتا اليوم من أكبر الشركات الرابحة والداعمة للموازنة العامة.
التل، لم يعترف بالكسل ولا الاعتمادية على الخارج، فقد أسس أعمدة لا تزال شاهدة على عبقريته في سنوات قليلة، فقد بدأ بشق الطريق الصحراوي الرابط بين خليج العقبة وشمال الأردن، وأسس مدينة الحسين للشباب ومستشفى الجامعة، وفتح الأبواب للشباب كي ينخرطوا في العمل السياسي، وأحرق سجلات المعارضين والسجناء السياسيين، وانشأ حزب الاتحاد الوطني لعودة الدماء للحياة السياسية والحزبية، وقبيل الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية، كان وصفي رئيسا للديوان الملكي حيث قاوم بشراسة خوض حرب غير متكافئة، وأدرك أن تلك المغامرة ستكون كارثة على القدس والضفة الغربية برمتّها، وهذا ما نشهده فعلياً اليوم مما استنبأ به التل، وكيف هو حال ثوار الفنادق اليوم.
في العام 1970 لم يكن للدولة الأردنية صوت إعلامي، فالعرب والأردنيون كانوا مشتتين بين الإذاعة الاردنية المتواضعة وبين صوت القاهرة الناصرية و"بي بي سي" البريطانية، ومن هناك قرر التل انشاء محطة الإذاعة والتلفزيون لإيصال صوت الدولة خارجيا، وأسس صحيفة (الرأي) التي تقرأونها الآن لتكون صوت الدولة بعد خمسين عاماً، وبنى محطة الأقمار الاصطناعية، وأخذ الموافقة على مد مئة كيلومتر عبر شاطئ العقبة الجنوبي.
هل كان الرئيس التل فاشلا؟ هل يعقل هذا السؤال؟ هناك من ما زالوا يقولون ذلك.
Royal430@hotmail.com