تقرير ديوان المحاسبة.. ماذا بعد؟
مدار الساعة ـ نشر في 2022/11/22 الساعة 00:42
أصدر ديوان المحاسبة قبل أيام تقريره السنوي السبعين لعام 2021، والذي يعتبر استحقاقا تشريعيا فرضته المادة (22) من قانون ديوان المحاسبة رقم (28) لسنة 1952 وتعديلاته، التي تلزم رئيس الديوان بتقديم تقرير سنوي عن كل سنة مالية إلى مجلسي الأعيان والنواب، متضمنا ملاحظاته على الجهات المالية المُكلف بالرقابة عليها، بالإضافة إلى بيان المخالفات المرتكبة والمسؤولية المترتبة عليها.
وكعادته، فقد جاء التقرير السنوي الأخير جريئاً من حيث مضمونه، وكاشفا عن سلسلة من التجاوزات المالية والإدارية على المال العام، والتي كان بعضها صادما للرأي العام من حيث قيمة المبالغ المالية المعتدى عليها وطبيعة المخالفات المتعلقة بها. وهذا النهج المستمر من ديوان المحاسبة من شأنه أن يعزز من الثقة السياسية والشعبية بهذه المؤسسة الوطنية، التي تستمد وجودها القانوني من الدستور نفسه.
فقد حرص المشرع الدستوري على النص على إنشاء ديوان المحاسبة في المادة (119) من الدستور وإعطاء رئيسه حصانة بموجب القانون. وهو الأمر الذي كرسته المادة (5) من قانون ديوان المحاسبة التي اشترطت لعزل الرئيس أو نقله أو إحالته على التقاعد أو فرض عقوبات مسلكية عليه موافقة مجلس النواب إذا كان المجلس مجتمعا، أو موافقة جلالة الملك إذا كان المجلس غير مجتمع. إلا أن هذا الحكم التشريعي لم يتضمن حالة قبول استقالة رئيس الديوان، التي ينفرد مجلس الوزراء في قبولها دون موافقة مجلس النواب أو جلالة الملك.
وقد خضعت المادة (119) من الدستور لتعديلين اثنين خلال السنوات العشرة الماضية، أولهما في عام 2011، عندما أصبح لزاما على رئيس ديوان المحاسبة تقديم نسخة من تقريره السنوي إلى مجلس الأعيان، بعد أن كان النص الدستوري قبل التعديل يقصر هذا الإجراء على مجلس النواب فقط.
وفي عام 2022، جرى تعديل آخر على المادة (119) من الدستور، بحيث تم فرض مدة زمنية على مجلسي الأعيان والنواب لمناقشة تقرير ديوان المحاسبة، وذلك خلال الدورة التي يُقدم فيها التقرير أو الدورة التي تليها على الأكثر.
وقد كان الهدف من هذا التعديل الدستوري وضع إطار زمني لمجلسي الأمة للتعاطي مع تقرير ديوان المحاسبة، والقضاء على ظاهرة تكدس التقارير السنوية في أروقة المجلس. فاليوم أصبح يتعين على مجلسي الأعيان والنواب مناقشة التقرير السنوي لعام 2021 خلال الدورة العادية الثانية المنعقدة حاليا، أو أي دورة استثنائية قادمة سيعقدها مجلس الأمة.
وقد يرى البعض في هذا الحكم الدستوري المستحدث تعارضا مع الأحكام الخاصة بالدورة الاستثنائية، التي تكون صلاحية مجلسي الأمة فيها محددة بالموضوعات الواردة في الإرادة الملكية السامية بدعوة المجلس إلى الاجتماع في دورة استثنائية. ولغايات التماشي مع هذا الواقع الدستوري، فإن الإرادة الملكية السامية بعقد أي دورة استثنائية قادمة بعد الدورة الحالية ستتضمن بند مناقشة تقرير ديوان المحاسبة فيها.
وفي جميع الأحوال، فقد قصر المشرع الدستوري دور مجلسي الأمة على "مناقشة" تقرير ديوان المحاسبة، والتي يُفترض أن يتسع نطاق تطبيقها ليشمل الرقابة السياسية على الحكومة والوزراء فيها من خلال أسلوب طرح الثقة أمام مجلس النواب، وإحالة المتورطين بالاعتداء على المال العام إلى الجهات القضائية المختصة.
وهنا تكمن المشكلة في الرقابة البرلمانية على تقارير ديوان المحاسبة، إذ لا يُعقل أن يتم الانتظار لدورتين برلمانيتين متتاليتين لكي يتقرر بعدها إحالة الأشخاص المعتدين على المال العام إلى القضاء، أو أن يقوم مجلس النواب بالرقابة على الحكومة، والتي قد تكون خلال هذه الفترة قد جرى تغييرها وتشكيل حكومة جديدة، لا يمكن مساءلة رئيسها عن أي مخالفات مالية وإدارية ارتكبت في عهد الحكومة السابقة.
من هنا، فإن المسؤولية الأكبر في متابعة مخرجات ديوان المحاسبة تقع على عاتق مجلس الوزراء باعتباره صاحب الولاية العامة في إدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية بموجب الدستور، حيث قامت الحكومة الحالية بتشكيل لجنة خاصة لهذه الغاية.
وتبقى المصلحة العليا في مأسسة العمل الحكومي في مجال تنفيذ توصيات ديوان المحاسبة وتقاريره السنوية، وذلك من خلال إيجاد وحدة مؤسسية قائمة بذاتها في رئاسة الوزراء وتحت إشراف رئيس الوزراء، تكون مهام القائمين على إدارتها متابعة ما جاء في تقارير ديوان المحاسبة، والتنسيق مع الجهات الحكومية والقضائية المختصة للعمل على استرداد المال العام، وتصحيح المخالفات الإدارية أينما وقعت. فاللجان الحكومية الخاصة التي يجري تشكيلها لهذه الغاية تكون مؤقتة بطبيعتها، ويتم تغيير أشخاصها بتعديل الحكومات، مما يؤثر سلبا على الاستمرارية في تنفيذ توصيات ديوان المحاسبة.
* أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق/الجامعة الأردنية
laith@lawyer.com
وكعادته، فقد جاء التقرير السنوي الأخير جريئاً من حيث مضمونه، وكاشفا عن سلسلة من التجاوزات المالية والإدارية على المال العام، والتي كان بعضها صادما للرأي العام من حيث قيمة المبالغ المالية المعتدى عليها وطبيعة المخالفات المتعلقة بها. وهذا النهج المستمر من ديوان المحاسبة من شأنه أن يعزز من الثقة السياسية والشعبية بهذه المؤسسة الوطنية، التي تستمد وجودها القانوني من الدستور نفسه.
فقد حرص المشرع الدستوري على النص على إنشاء ديوان المحاسبة في المادة (119) من الدستور وإعطاء رئيسه حصانة بموجب القانون. وهو الأمر الذي كرسته المادة (5) من قانون ديوان المحاسبة التي اشترطت لعزل الرئيس أو نقله أو إحالته على التقاعد أو فرض عقوبات مسلكية عليه موافقة مجلس النواب إذا كان المجلس مجتمعا، أو موافقة جلالة الملك إذا كان المجلس غير مجتمع. إلا أن هذا الحكم التشريعي لم يتضمن حالة قبول استقالة رئيس الديوان، التي ينفرد مجلس الوزراء في قبولها دون موافقة مجلس النواب أو جلالة الملك.
وقد خضعت المادة (119) من الدستور لتعديلين اثنين خلال السنوات العشرة الماضية، أولهما في عام 2011، عندما أصبح لزاما على رئيس ديوان المحاسبة تقديم نسخة من تقريره السنوي إلى مجلس الأعيان، بعد أن كان النص الدستوري قبل التعديل يقصر هذا الإجراء على مجلس النواب فقط.
وفي عام 2022، جرى تعديل آخر على المادة (119) من الدستور، بحيث تم فرض مدة زمنية على مجلسي الأعيان والنواب لمناقشة تقرير ديوان المحاسبة، وذلك خلال الدورة التي يُقدم فيها التقرير أو الدورة التي تليها على الأكثر.
وقد كان الهدف من هذا التعديل الدستوري وضع إطار زمني لمجلسي الأمة للتعاطي مع تقرير ديوان المحاسبة، والقضاء على ظاهرة تكدس التقارير السنوية في أروقة المجلس. فاليوم أصبح يتعين على مجلسي الأعيان والنواب مناقشة التقرير السنوي لعام 2021 خلال الدورة العادية الثانية المنعقدة حاليا، أو أي دورة استثنائية قادمة سيعقدها مجلس الأمة.
وقد يرى البعض في هذا الحكم الدستوري المستحدث تعارضا مع الأحكام الخاصة بالدورة الاستثنائية، التي تكون صلاحية مجلسي الأمة فيها محددة بالموضوعات الواردة في الإرادة الملكية السامية بدعوة المجلس إلى الاجتماع في دورة استثنائية. ولغايات التماشي مع هذا الواقع الدستوري، فإن الإرادة الملكية السامية بعقد أي دورة استثنائية قادمة بعد الدورة الحالية ستتضمن بند مناقشة تقرير ديوان المحاسبة فيها.
وفي جميع الأحوال، فقد قصر المشرع الدستوري دور مجلسي الأمة على "مناقشة" تقرير ديوان المحاسبة، والتي يُفترض أن يتسع نطاق تطبيقها ليشمل الرقابة السياسية على الحكومة والوزراء فيها من خلال أسلوب طرح الثقة أمام مجلس النواب، وإحالة المتورطين بالاعتداء على المال العام إلى الجهات القضائية المختصة.
وهنا تكمن المشكلة في الرقابة البرلمانية على تقارير ديوان المحاسبة، إذ لا يُعقل أن يتم الانتظار لدورتين برلمانيتين متتاليتين لكي يتقرر بعدها إحالة الأشخاص المعتدين على المال العام إلى القضاء، أو أن يقوم مجلس النواب بالرقابة على الحكومة، والتي قد تكون خلال هذه الفترة قد جرى تغييرها وتشكيل حكومة جديدة، لا يمكن مساءلة رئيسها عن أي مخالفات مالية وإدارية ارتكبت في عهد الحكومة السابقة.
من هنا، فإن المسؤولية الأكبر في متابعة مخرجات ديوان المحاسبة تقع على عاتق مجلس الوزراء باعتباره صاحب الولاية العامة في إدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية بموجب الدستور، حيث قامت الحكومة الحالية بتشكيل لجنة خاصة لهذه الغاية.
وتبقى المصلحة العليا في مأسسة العمل الحكومي في مجال تنفيذ توصيات ديوان المحاسبة وتقاريره السنوية، وذلك من خلال إيجاد وحدة مؤسسية قائمة بذاتها في رئاسة الوزراء وتحت إشراف رئيس الوزراء، تكون مهام القائمين على إدارتها متابعة ما جاء في تقارير ديوان المحاسبة، والتنسيق مع الجهات الحكومية والقضائية المختصة للعمل على استرداد المال العام، وتصحيح المخالفات الإدارية أينما وقعت. فاللجان الحكومية الخاصة التي يجري تشكيلها لهذه الغاية تكون مؤقتة بطبيعتها، ويتم تغيير أشخاصها بتعديل الحكومات، مما يؤثر سلبا على الاستمرارية في تنفيذ توصيات ديوان المحاسبة.
* أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق/الجامعة الأردنية
laith@lawyer.com
مدار الساعة ـ نشر في 2022/11/22 الساعة 00:42