بيرين.. حكاية الوادي مع الناس (صور)
مدار الساعة - كتبها : عبدالله محمد الغويري
على طول طريق وادي بيرين من ابو نصير جنوباً حتى طريق جرش شمالاً، العديد من عيون الماء كانت موجودة على امتداد ذلك المسار، منها ما اعتراهُ الجَدبُ والجفاف، والبعض منها ظل ينسابُ على خجلٍ رغم تقادم الزمان كعين شجرة ام العروق، وعين ام رمانة، وعين صابر، وعين تمر (حوض الخلة). ووادي بيرين ظلَّ يكتنفُ بعضاً من تلك الآبار، كان منها الخصبُ الرقراقُ والذي التقى بالناس وضربَ موعداً معهم عند فوهات النبع اوالبئر.. او البئرين.. بين ثنايا ذلك الوادي.
ارتبط اسم بيرين بتلك الآبار وعيون الماء الموجودة في أكثر من موقع وضاحية في تلك المنطقة، وخصوصاً البئرين الشهيرينِ في الوادي. فبعد اكتشاف الماء أصبح القدماءُ من سكانها يُطلقون على المنطقة اسم "وادي بيرين"، ثم تم إختصار الأسم فيما بعد إلى "بيرين". ترتبط قصة المكان مع الأشخاص ومع الأجيال التي تعاقبت حول الوادي، فتغلغلَ الوادي في تفاصيل حياتهم وظلَّ خَرِيرُ مائه عالقاً في أسماعهم وانصهروا معه في بوتقةِ الأحداثِ والذكرياتِ.. حتى صار منهم وصاروا منه.
تعود أعمار الصخور في بيرين لحقبة الحياة المتوسطة على سلم الزمن الجيولوجي، وتتبعُ لفترات العصر الكِريتاسي (الطباشيري) الأوسط(اي قبل ما يقارب من ٨٠ مليون سنة)، وتفترشُ على سطح أرضها الصخور الجيرية الكلسية، وتظهر في التكشّفات طبقاتٌ متناوبةٌ من صخور الدولميت والحجر الجيري مع عروقٍ من الصوان وتموجاتٍ طريةٍ من صخر المارل الأصفر، وتدلُ هذه الأنواع من الصخور الرسوبية على بيئة بحرية ضحلة وقت ترسيب تلك الطبقات-كما هو الحال بما يجاورها من مناطق ومحافظات وإقليم في ذلك الزمان، يدللُ على ذلك بعض الأحافير التي وجدتها على سفوح بعض الجبال في بيرين، مثل أحافير نجم البحر، وشوكيّات الجلد وبطنيّات القدم.
بعض الحضارات القديمة ظهرت معالمها في بيرين، مثل بقايا الآثار الرومانية في قرية زوبيا (وهي مجموعة شواهد أثرية على تلة في احد الجبال- شرقيّ الوادي) تحوي احجاراً وبقايا حصن أو قرية، وقطع خَزف وأواني فخارية، ويُقال أنَّ زوبيا هي كلمة رومانية تعني الأرض المرتفعة. رجم "جمعان" الأعلى من زوبيا في الارتفاع الجغرافي (أو حسب التسمية القديمة - جميعان) ،أُكتشفت فيه شبه قرية أثرية قديمة، وتتحدث بعض الأقاويل الشعبية المتوارثة على أنَّ زوبيا (الملكة) وجمعان (الملك) كانا يحكمان في المنطقة، وكان لكل منهما قصر على تلة يُقابل قصر الأخر. بعد التوسعة الأخيرة لطريق بيرين - الزرقاء تكشّفت معالم واضحة وجديدة لرجم جمعان، فعملت دائرة الآثار العامة على دراستها وتنقيبها، وبينت أنَّ رجم جمعان يعود لفترات العصر الحديدي، وقد استخدمته المملكه العَمّونيه (رَبة عَمّون) بُرجاً للمراقبة، شأنه شأن الأبراج الأخرى التي استُخدِمت لمراقبة الجبهة الشمالية للمملكة العَمّونية مثل رجم الطربقي في منطقة الكمشه.
كِبار القرية تحدثوا عن بقايا أثرية أخرى في بيرين، كانت موجودة في الجهة الغربية المرتفعة من المقبرة الحالية، وتمثل مَغارة وحجارة مبعثرة، وتربة تحوي أعمال صلصال وبقايا أواني مكسرة عليها نقوش وخطوط دَرز مماثلة لتلك الموجودة في تل زوبيا، بل إنَّ المُدقق بالنظر يلحظُ تشابهاً في لون وقوام التربة بين المنطقتين، طُمرت تلك البقعة مع زيادة الموتى وكثرة الناس التي ألهاها التكاثر حتى زارت المقابر، لتصبح متداخلة مع السابقين واللاحقين. بينَ بعضُ الباحثين الأردنيين وعلماء الآثار الغربيين أنَّ بيرين مع امتداد الوادي حتى يلتقي مع سيل الزرقاء هي جزء من تجمع أثري يعد الأكبر في الشرق الأوسط يعود لما يقارب الألف سنة قبل الميلاد، وهو ما يعرف بحضارة (الوَدَعة) الموجودة في المناطق المتاخمة لنقطة التقاء وادي الزرقاء مع وادي الضليل.
لا يوجد توثيق رسمي يؤكد قصة اكتشاف الماء في العصر الحديث في وادي بيرين، سوى بعض الروايات التي حكاها كبار السن عن طريق السرد الشفوي الذي سَمِعوهُ من ابائهم واجدادهم، وهنا استندُ على الرواية الأقرب إلى الصحيح والتي سمعتها من بعض كبار السن والتي تحكي أنَّ أول من اكتشف الماء في ذلك الوادي هم عشيرة (المجاغفة)، الذين ترجع أُصولهم إلى سلالة (الأشراف) من الهاشميين، جدهم هو الشريف سالم الملقب (بالمجغف)، والذي يتواتر بالنسب حتى يصل إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، قدموا إلى الأردن قبل ما يزيد عن ٢٠٠ سنة، وانضموا إلى حلف عشائر قبيلة بني حسن، وعلى وجه التحديد إلى (عشيرة العليمات).
كان الترحال من أجل التقصّي عن الماء والكلأ سبباً في تنقلات العشائر في تلك الظروف العصيبة، فتأمين أشكال الغذاء من الحبوب والحنطة والخضروات من الأرض كان أمراً ضرورياً، وتفادي سنوات الجوع والقحط كان لازماً للعبور إلى الخلاص من وعثاء العيش في ذلك الوقت، لذا كان الظّفرُ بمنطقة تحوي الماء للناس والدواب هو الهاجس الوحيد الذي يؤرقُ كِبار القوم وشيوخ العشائر.وحسب ما روى الثّقاتُ أنَّ مجموعة من أفراد عشيرة المجاغفة وأثناء تجوالهم في المناطق البعيدة المحيطة في بيرين، كان منهم راعٍ للأغنام يبتعدُ بقطيعه عن جماعته، فلاحظ الراعي أنَّ تيس من الماعزِ يبتعدُ عن القطيع ويتوارى خلف الجبال لمسافات بعيدة، وانتبه الراعي إلى أنَّ التيس عندما يرجع من جولته في كل مرة تكون لحيته مبلولة، فقرر أنْ يراقبه في اليوم التالي، وسار خلفه الي أن أوصلهُ الي عين ماء في وادٍ مهجور، والتي أصبحت عين الماء الأول في بيرين، رجع ذلك الراعي ليبشر أقاربه بما وجد، فرحلوا من بعدها إلى وادي بيرين، وأحاطوا بالماء وسكنوا حولها، ويبدوا أنّهم (أو من جاء من بعدهم) من اكتشفوا البئر الثاني.
رحلَ هذا القِسمُ من المجاغفة فيما بعد إلى عمّان، واستقروا في منطقة طبربور، ويقول كبار السن أنَّ بعضاً من بقايا قبور موتاهم ظلت موجودة أسفل مقبرة بيرين الحالية، أي أنّهم اختاروا التلّة الغربية المقابلة للبئر مقبرة لهم، والتي استمرت مقبرة إلى يومنا هذا. تستأنفُ رواية كبار السن قصتها وتحكي أنَّ عشائر الخلايلة والزواهرة والغويري جائوا إلى بيرين من مناطق تجمّع عشائر بني حسن الذي كان حول مناطق السخنة وسيل الزرقاء، فوصلت أفراد تلك العشائر الثلاث (والذين كانوا بالمئات وقتها) بعد معرفه مُسبقه عن وجود الماء في الوادي، أو أنَّ طقوس الترحال والغزو جعلتهم يقتربوا للسكن حول الوادي بالقرب من الماء، لكن لا يوجد ما يؤكد على أنّهم رحلوا مع بعضهم أو أنَّ عشيرة كانت أسبق من غيرها في الوصول والاستقرار، تزامن ذلك مع الفترات الأخيرة للدولة العثمانية.
مع بدايات تأسيس إمارة شرق الأردن كان لابد من تقسيم الأراضي والواجهات بين الناس، فكان (التقسيم الأول) بين العشائر الثلاث، لمعرفة حدود وحصة كل عشيرة، فالزواهرة كانت قِسمتهم صوبَ الجبال الغربية البعيدة عن الوادي (الكمشة وضواحيها)، والخلايلة كان نصيبهم المناطق الجنوبية (صابر وأم رمانة) مع المرتفعات الجنوبية الشرقية (رجم الشوف) من مقدمة الوادي، والغويري استقروا في بطن الوادي (بيرين البلد) وما يحيط به من جبال وضواحي وصولاً الي الشمال (طريق جرش). بعد عِدة سنوات حصلَ (التقسيم الثاني)- وهو بين عائلات وتفرعات العشيرة الواحدة. وكانت تلك التقسيمات لضبط أمور الناس ومعيشتهم، وباعثاً على توطينهم واستقرارهم، حتى يتمكنوا من العبور إلى مراحل التطور الاجتماعي الذي سيشهده الوادي فيما بعد.
كانت الزراعة ورعاية المواشي أبرز الأنشطة التي مارسها الناس حول الوادي، بل إنّ الماء الوفير نشّطَ من إيقاع زراعة المحاصيل الحقلية (كالحبوب مثل القمح والذُّرة)، ومحاصيل البقوليّات (كالحمص والعدس)، ومحاصيل الأعلاف (الكرسنة والشعير) ومحاصيل الخضروات (البصل والخيار والبندورة والباميا والبطاطا)، يروي كبار السن عن كثافة زراعيّة كانت ماثلة على ضفاف الوادي بالقرب من مجرى الماء، وعن ارتفاعات باسقة لبعض المحاصيل مثل سيقان الذّرة التي تتجاوز طول الآدمي في بعض المواسم، وعن رائحة الخضروات التي يستطيع المرء استنشاق رائحتها الزكيّة على بعد مسافة لا يُستهان بها.
سُرعانَ ما تنوعت طقوس الناس في رحاب الوادي، حيث كان الأفراد يمارسون أنشطتهم اليومية والموسمية في أجواء يُخيم عليها المحبة وحق الجوار والتعاون في مواسم الحصاد وجني المحاصيل، ويتبادلونَ مشاعرهم في الأفراح والاتراح، وظلّت عُرى الوشائج الاجتماعية قوية بينهم في المأكل والمشرب والتسامر والترحال وعَقيقة المواليد وطَهُور الأولاد والمناسبات الدينية والتسابق على ظهور الخيل، كانت قلوبهم صافية مثل ماء النبع الذي أحاطوا به، وكانت نواياهم نقية كعيون طفل.
كانت النّساءُ تَرِدُ على الماء كل يومٍ وأحياناً مرتينِ في اليوم الواحد، تملئ الواحدةُ منهنَّ قِربة الماء، ثم ترجعُ إلى المغارة وبيوت الطين في (الشتاء) أو بيتِ الشَّعَرِ في (الصيف)، لتمضي بعدها في دوّامة من الطبخِ والكنسِ وتربية الأولادِ والعنايةِ بشؤون الأسرةِ وحَلْبِ المواشي وإعداد الألبانِ والأجبانِ وجَمْعِ الحطبِ، بالإضافةِ إلى مساعدة الرجل في أعباء الحياة خارج البيوت، كانت المرأةُ تتعبُ ثلاث أضعاف الرجل، حيث كان دورها في الأعمال الروتينية المستمرة المتناوبة، على العكس من الرجل الذي كانت مهامهُ ترتكزُ على الأعمال الصعبة والثقيلة على فترات متقطعة.
كانت الظروف الجوية تُحتّم عليهم شكلَ السكنِ الملائمِ لِظروفهم، فَتجدهم يلجأونَ إلى الكهوف (المَغَارات) في فصل الشتاء، بل إنّهم ينامونَ أحياناً سويةً مع أغنامهم في نفس المَغارةِ اتقاءً للسيول والبَرْدِ والثلوجِ، ثم انتقلوا إلى طابعٍ آخر في فصل الشتاء وهو بيوتُ الطينِ والقُصّيبِ والخشبِ. أمّا في فصل الصيف ومن أجل التنقلِ مع الأغنامِ للبحث عن المراعي الخصبة ذهبوا إلى نَصْبِ بيوت الشَّعرِ، ولِيكونوا قَريبينَ أيضاً من مواقع حَصْدِ المزروعاتِ الحقليّةِ. بعد توالي السنوات.. زادت أعدادهم وأُسرهم، وتغير نمط عَيشهم نحو العملِ بالوظائف الرسميةِ فسكنوا منازلَ الأسمنتِ والطّوبِ والحَجر.
بُنيَّ مسجد بيرين أواخر الستينات، وشهدت الحياة في وادي بيرين في فترة الخمسينات والستينات تعليمَ الأولادِ القراءةِ والكتابةِ والحسابِ وحفظَ سورٍ من القرآنِ الكريمِ في الكُتَّابِ، ثم تمَّ الإنتقالُ إلى التعليم الحكومي النظامي مع افتتاح مدرسة بيرين عام ١٩٦٨م. كان تنظيم الأحوال الاجتماعية وتثبيت المواليد يتم تحت ضبط ختم المختار، ومتابعة الشؤون الإدارية والتنظيمية تحصل في المجلس القروي مع نهاية السبعينات - والذي تحول إلى بلدية فيما بعد.
تم تعبيد الشارع الرئيسي الذي يربطُ عمّان بالزرقاء مروراً بالوادي، بعدما كانت سيارات (الروفر) القديمة لا تستطيع الولوج من المنحدرات الوعرة إلى دربِ الوادي. تَشكّلت الطرق الفرعية الأخرى على السفوحِ والتلالِ والجبالِ وعلى بعض أكتاف الوادي. وظهرت معالم جديدة كالمركز الصحي ومركز القضاء التابع لمنطقة بيرين ومَخْفر الشرطة القديم (والذي كان من بعض مرافقه اسطبل للخيول) والمركز الزراعي ( الذي كانوا يسمونه المَغطس، حيث تم سحب قناة مياه من البئر باتجاهه للعناية بالمواشي وتغطيسها بالماء المنقوع بالمضادات البيطرية).
في زمنٍ مضى استمر وادي بيرين رافداً لنهر الزرقاء - والذي بدوره يَصبُّ في سد الملك طلال، وكان المجرى الخصيبُ الذي يَسلكهُ (نهر بيرين الصغير إذا جاز التعبير) مُثقلاً بالماءِ المدلوقِ من العيونِ الطافحةِ في شعابِ الوادي، بالإضافة إلى مياه الأمطارِ الغزيرةِ المندفعةِ من المنحدراتِ على جوانبِ الوادي في سنواتِ الخيرِ، ومن ثَمَّ ينقلها ذلك النهرُ الصغيرُ حتى يزود بها سيل الزرقاء. في بعض السنواتِ ومع اشتدادِ وتيرة هطولِ الأمطارِ تفيضُ المياه على جوانبِ الوادي فيما يشبه الفيضان الصغير، والذي كانوا يسمونه (بالمَدَّة)، لِيغطي الماءُ الهائجُ المساحات المجاورة ويتعدى الطرقات وأحيانا يتجاوز المنازل والمحلات التجارية على الشارع الرئيسي، قَتلت تلك المياه بعضاً الأرواحِ من القادمينَ عبرَ الطريق الرئيسي لِيعبروا إلى عمّان أو مناطق أخرى، فيتفاجئون بالموتِ ينتظرهم داخل المدِّ الثائرِ على جسر الوادي، مثل (المَدَّة) الشهيرة أواسط الثمانينات والأخرى أواسط التسعينات.
عَبْرَ الآلاف من السنواتِ ومَعا مَا يحملهُ المجرى من ماءٍ وحصىً ورمالٍ كان الوادي يَحتُّ حوافَّ الصخورِ المتربصةِ حوله لِيرسمَ تضاريسه كما يشاء في قيعان الجبال، ويَشقُّ طريقه غير عابئٍ بما يواجهه من طبقاتِ التربةِ المتراكمة في مسارهِ لِيتجلّي ممدوداً في مسالكه وبهِ بعضُ الانحناءاتِ في مناطقَ أُخرى، تصبح تلك الانحناءات حادّة قبل نهاية مسار الوادي عند طريق (الخلة-جرش) كثير التعرجات، ذلكَ الطريقُ المشهورُ بكثرةِ منعطفاته وكأنَّ المهندسينَ الذين رسموا ذلك الشارع كانوا يُطاردون ثُعباناً..!!.
مع مرورِ السنواتِ جَفَّت مياه أحد البئرينِ وتوقفت عن الإنسياب، أمّا البئر الآخر فَغارت مياههُ في طبقات الأرض، واستغلتهُ سلطةُ المياةِ في حفرِ بئرٍ ارتوازي لِيُغذي محطات التزويد المجاورة. أصبحَ بعدها مجرى وقاع الوادي قاحلاً، وما لبثت المياةُ العادمةُ من محطة تنقية (منطقة ابو نصير) تسيلُ فيه رَدْهاً من الزمن، وتوالت الشكاوى والمُطالبات بوقف ضخ تلك العوادم المؤذية للناس والبيئة، وبعد معاناة وطول انتظار بدأت بوادر التوقف عن ذلك الجريان في الآونة الأخيرة.
اليوم وعلى جوانب الوادي تَكْتنزُ المنازلُ صعوداً حتى تُضاهي السفوح إلى أنْ تتوسد رؤوس الجبال، وتلتصقُ المحالُ التجاريةُ على ضِفتي الوادي بعدما تطورت ظروف العيش و حَوَّلَ الوادي مجراه إلى شارعٍ تجاري. تضاعفت أعداد المواليد من الناس، وكَبُرت العائلات وتمدّدت وتفرّعت، وزادَ عدد سكان (بيرين البلد) الأصليين، بالإضافة إلى القاطنيينَ الجُدد الذين اختاروا بيرين ملاذاً لهم لقربها من وظائفهم في عمّان، ولِما تتمتع به المنطقةُ من غِطاء نباتي وأشجار حُرجية وطقس معتدل وهواء عليل.. يشفي الغَليل..!!.
يتجاوزُ اليوم عدد الموجودين في محيط وادي بيرين حاجزَ العَشرةِ آلاف نَسَمة، يزدادُ ذلك العَددُ يومياً مع المارينَ والذاهبينَ على طريق بيرين الرئيسي من وإلى عمّان والزرقاء وجرش والبلقاء، أضف عليهم أعداد السائحينَ والمُتنزهينَ في عُطلات نهاية الأسبوع، مما يُشير إلى ارتفاع في العَدد يتجاوز حاجزَ الأربعين ألفاً في الأسبوع الواحدِ على الأقل.
كنتُ في أحيانٍ كثيرة أسمحُ لِخيالي أنْ يَهِيمَ مع فكرة محاولة فهم كيف كان حالُ الوادي في أزمنة غابرة، وماذا لو أغمضُ المرءُ عينيه وحاولَ الرجوع إلى الوراء في مُخيلةٍ سابرةٍ نحو العودة إلى الجذور، وظلَّ السؤال (لماذا..؟ ) يلاحقني.. والخيال (كيف..؟) يراودني..!!. ولدتُ في بيرين (مأوى الآباء والأجداد)، وبالقربِ من واديها نموتُ... وترعرعتُ، وكان ليَّ نصيبٌ فيها من رعي الماعزِ على جبالها وتلالها في الطفولةِ ومُقدمةِ الشباب، وكنتُ محظوظاً لِبعضِ المواسمِ في المشاركة بأعمال (حَصدِ القمحِ والشَّعيرِ والكرسنةِ وقطفِ الباميا وغِمارة البيادر وحَشْيِّ شِوالات التبنِ والشَّعيرِ) على بعضِ سُفوحِها.
ومع التقدمِ في العُمرِ تلاطمت بِي أمواجُ الحياةِ وظلَّ ذلكَ الخيالُ جامحاً.. ومأسوراً، واستمر السؤال لحوحاً..!!. بَقيَ الوادي وقِصتهُ مع الماء تدهشني، ولازلتُ أتذكرُ البئر الثاني القريب من مبنى بلدية بيرين من جهة الجنوب، كنتُ وأبناء جيلي نحتسي منه غَرَفَاتٍ لِنسُدَّ ظمأ جولات الصبا هنا وهناك وكان ذلك مطلع التسعينات، كانت مياههُ نَديّة مثل السكر، ومُنعشة كأنّها تذوبُ من جليد. كيف كان الوادي شاهداً على تقلبات نمط الحياة، وكيف انتقلَ الناس على جوانبه من المَغَارات ثم قَطَنوا بيوت الشَّعرِ إلى أنْ استقروا في منازلِ الطينِ والحجر، تَتطايرُ الأسئلةُ..وتموجُ الخيَالاتُ .. لِتكشفَ شيئاً واحداً.. وهو أنَّ الماء سيبقى السّرَ الكامنَ وراءَ بعث الحياة في بلدة بيرين، ولولا مِنّةُ اللهِ في تفجرهِ إلى السطحِ لما تراكمت الأجيال في بطن الوادي، ثمّ لولا تلك اللّحيةَ المبلولةَ لذلكَ التّيسِ المُغامِر لكانَ الوادي خراباً..خاوياً..بَلِيداً.. وموحشاً..!
واليوم وبعد كل تلكَ السنين، تستمرُ شوؤن الناس في مُجاراةِ الحياة، وتتباينُ أحوالهم في كل يومٍ حول ذلك الوادي، وتتنوعُ ضُروبُ الحياةِ بين الناس والجمادات في روتينٍ مُتناوبٍ حَضنهُ وادي بيرين، فتلحظُ عنده طفل يحملُ حقيبته المدرسية على كتيفيهِ النحِيلينِ، هديرُ السياراتِ والمركباتِ ذهاباً وإياباً، الرائحةُ العابقةُ من الطحينِ المُتناغمِ مع رائحة الخبز وهي تفوحُ من مخبزٍ في الصباحات الباردة، طالبة جامعيّة تضعُ كتبها على نَحرها تنتظرُ الباصَ القادمَ من القُرى المجاورة، طالبٌ جامعيّ يحملُ كأس قهوةٍ ويهرولُ صوبَ نفسِ الباصِ حتى لا يَفُوتُهُ، صَرير باب مخزن تجاري وهو يُغلق ويُفتح كل يوم، ريشة تتمايل في الغباش وتقاومُ تأثير الجاذبية الأرضية، وجوهٌ عابسةٌ وأخرى باسمةٌ داخل السيارات وهي ذاهبةٌ إلى دوامها، مُصلّونَ يُشَيعُونَ جنازةً، شُرطيٌّ يَنزِعُ "البوريه" من رأسه فَرِحاً بانتهاء وَرْديتهِ في المخفر، نَقيق ضفدع وهو يَثِبُ بين الماء واليابسة لِيُمارسَ هوايته البرمائية على جانبي السيل، دكتور يُنصِتُ بسماعته لِخشخشة رئة طفل في المركز الصحي، امرأة تفردُ ملابس مغسولة على مَنْشر حتى تتقاطع مع أشعة الشمس، سِمْسار يَفتحُ مُخَطط أراضٍ على غطاء سيارته لِيشرح لِلمشتري حدود الأرض، صوتُ الأذانِ يَفجُّ عَنان السماء من مسجد، اصْطِكاك نَصْل المِقص وهو يَقبضُ على شارب أحدهم في صالون حلاقة، معلمة تتثاءبُ وهي تمسح السبورة لِتشرع في درسها من جديد، أولاد يُبعثرونَ ألعاب ومُجسمات صغيرة رتَبَتها البناتُ في اليوم السابق، سِربٌ من الحمام يعانقُ سقف الوادي تحت القبة السماويّة، عَجوز تتكئ على جَاعدٍ قديم وتَرشِفُ من فنجان قهوتها، أصوات... ضحكات... صَخب..صمت.. ضجة.. قَهقهات... حَركات.. سَكَنات.. نِداءات.. جميع تلكَ التفاصيل للحياة اليومية سيظلُ رَحَاها يدورُ مع الزمن لِتروي حِكاية واحدة.. وهي حِكاية الوادي مع الناس.