الشخصية الفلسطينية
... اتابع السوشيال ميديا كثيرا، لماذا كل خبر يأتي من فلسطين... تحتفل به الناس، سواء كان عملية استشهادية أو أغنية، أو طبخة.. أو طريقة صنع المسخن؟... بالمقابل كل خبر يأتي من العالم العربي تجد ألف نقد وألف عتب وألف علامة استفهام...
أمس مثلا شاهدت، تسجيلا عن طريقة عمل (القدرة) في الخليل لسيدة من المدينة, الكل كان يشيد.. والكل جعلها مناسبة وطنية لدرجة شعرت فيها بأن طنجرة القدرة هي الأخرى تقاتل، بالمقابل وفي ذات اليوم نشرت مدونة لدينا طريقة صنع الدجاج بالكريما... الجميع هنا بلا استثناء انتقدها، وأحدهم علق على أظافرها.. والآخر انتقد المكياج، وصبية سألت: وهل يهتم أهل القرى لطريقة عمل الدجاج بالكريما؟
هل يدرس صناع القرار لدينا هذه الظاهرة لدينا، وهل قام مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية بعمل دراسة عن اسباب احتفال الناس بالأخبار القادمة من فلسطين..؟
القصة باختصار أنك في فلسطين، لا تجد أحدا يتحدث عن ارتفاع السولار، لا تجد أحدا يتحدث عن تعيينات السلطة، ومن النادر أن تجد قتيبة هناك يطالب بالرحيل، قتيبة الفلسطيني لو قطعوا يديه وقدميه مقابل أن يترك جنين لرفض... من النادر أيضا أن تجد في الفداء محاسيب وأنسباء.. الفداء يحتاج لرجولة ومبادئ ولا يحتاج لقوى دفع عشائرية أو مالية، من النادر أيضا أن تجد في فلسطين (لاند كروزر) برقم مميز... من النادر أيضا أن تجد أحدهم يقيم عرسا لابنه ويحضر عمرو ذياب أو راغب علامة... من النادر أن تجد في الضفة رجلا فتح ديوان العائلة لتل?ي التهاني بمناسبة تعيينه في المجلس الوطني...
فلسطين الأولوية فيها للدم، لهذا نسي الشعب هناك لغة الاقتصاد، ونسوا لغة التهاني ولغة المناصب.. ولغة التنفيعات.. وأسسوا الشخصية الفلسطينية الجديدة وأعادوا صياغة الهوية، بما يكفل ديمومة المقاومة.. وتطوير أساليبها...
هذه الشخصية لم تعد تعتمد على الدعم المالي العربي، ولم تعد تعتمد على احتضان العواصم للثورة.. ولم تعد تعتمد على الخارج، صار اعتمادها فقط... على الأرض والناس وتكافل الجميع وتضامنهم بغض النظر عن الأحزاب والانتماءات..
الشخصية الفلسطينية الجديدة التي شكلت في الداخل، لم يعد فيها ذاك اليسار الانتهازي.. الذي يأخذ دوره في الثورة ثم يعود لعواصم العالم العربي بحثا عن المناصب، لم يعد فيها لغة البرجماتية في السياسة، والشخصية الفلسطينية الجديدة.. ليست بالشخصية المتنقلة بين العواصم، وليس أقصى طموحاتها السير على السجاد الأحمر في قصر الإليزيه، الشخصية الفلسطينية الجديدة هي وحدة القياس في العالم العربي لمعنى المبادئ ولمعنى العقيدة ولمعنى الالتصاق بالأرض.
في فلسطين يعيدون تكوين الهوية وترسيخها وإعادة صياغة الشخصية، وفي العالم العربي للأسف تذوب الهويات لصالح العولمة والمشاريع والاقتصاد..
في فلسطين.. حلم الشاب هناك ألا يغادر نابلس أو القدس أو الخليل إلا للقبر فقط، وحلم الشباب في العالم العربي صار الحصول على فيزا والمغادرة للولايات الأميركية المتحدة.. حلم الشباب هناك هو الشهادة لأجل الأرض، وحلم الشباب في عالمنا العربي هو بيع الأرض وشراء (موستانغ)... حلم الشباب هناك أن تخرج أمه لحظة شهادته وتودعه، وهي تدعو الجيل الجديد كي يقتدي به.. وأن تستمر مواكب الشهداء، وحلم الشباب في عالمنا العربي هو العروس التي سيختارها وسيعرفها عبر الفيس بوك وينتج قصة غرام وهمية معها... بمعزل عن رأي والدته.
الشخصية الفلسطينية، تنسف كل نظريات التطور الاجتماعي.. حتى نظريات صراع الحضارات، تنسف ما كتبه جورج طرابيشي في الرد على محمد عابد الجابري..حول الموروث وحول الشرق والغرب.. تنسف علي الوردي.. تنسف رؤية البعض في الثورة الفرنسية..
وللأسف لم يتجرأ باحث عربي للآن أو مركز دراسات على قراءة هذه الشخصية، أو تقديم ملامحها أو فهمها... في عصرنا الجديد هذا.
في النهاية السوشيال ميديا لها الكثير من الجوانب السيئة، ولكنها جعلتني اقتنع بأن طبخة قدرة صورت في الخليل ومن يد سيدة فلسطينية، قادرة على هزيمة كل المشاريع الاقتصادية والتنويرية في عالمنا العربي... وتهزمنا نحن أيضا فوق هزيمتنا.
Abdelhadi18@yahoo.com