المساعدة يكتب: ما بين الهدر والأمن الغذائي أين نقف؟

أ.د. عدنان مساعده
مدار الساعة ـ نشر في 2022/10/29 الساعة 17:18

تصريح معالي وزير الزراعة حول الهدر الغذائي الذي تصل نسبته إلى 40% يعكس أننا نعيش في عالم فضائي خيالي لا يلامس الواقع الحقيقي الذي يجب أن يكون في ظل عالم تجتاحه ظروف اقتصادية صعبة، ومنها اختلال توازن سلة الغذاء العالمية التي تتأرجح هبوطا ولا تستقر على حال ورافق ذلك غلاء حاد وتقلبات في الأسعار باتت تؤرق كاهل المجتمعات.

وبلغة الارقام فإذا كان ما نسبته 85% من احتياطات المملكة من الغذاء يتم استيرادها من الخارج، وأن الأردن يستورد ما قيمته من الغذاء يصل الى 4 مليارات دولار سنويا من مواد أولية للصناعات الغذائية والآخر للاستهلاك استنادا الى أرقام غرفة تجارة عمان. ولتحويل نسبة الهدر 40% التي أشار اليها معالي وزير الزراعة، فإن ذلك يعني أن قيمة المبالغ التي يتم هدرها تصل هي 1.6 مليار دولار أي ما يعادل 1.3 مليار دينار أردني سنويا.

وهنا، كنت أتمنى أن يكون تصريح معالي الوزير أكثر تفصيلا وشمولية مبينا تلك الفئات التي أوصلت نسبة الهدر الى هذا الحد الخطير؟ هل هي طبقة الفقراء وعامة الناس الذين يعيشون خط الفقر هم الذين يهدرون الغذاء؟ أم هم طبقة ميسوري الحال والأغنياء؟ أم هم غالبية المجتمع الذين يهدرون الغذاء كل بطريقته وحسب الدخل الذي يأتيه بسبب غياب الثقافة لدى الأسر التي استمرأت ثقافة الاستهلاك والتقاعس ولم تعود نفسها على ثقافة الانتاج والعطاء؟ وهل عجزت السياسات الزراعية والاستراتيجيات الغذائية على تغيير هذا النمط الحياتي لدى الناس رغم الظروف الصعبة التي تواجه الكثيرين؟ وهل عجزت مناهجنا الدراسية التي كانت تدرس الاقتصاد المنزلي لتغيير نمط الاستهلاك لدى جميع أفراد الأسرة؟ وهل هناك نقص في التشريعات القانونية التي تحاسب كل من يهدر الغذاء الذي هو ملك لكل الناس وللمجتمع بصرف النظر عن مستوى دخلهم الاقتصادي؟

حدثني صديق عن نظام التأمينات الاجتماعية في المانيا، ويذكر هنا موقفا يتلخص بأن أحد الاشخاص قام بدعوة عدد من أصدقائه الى وجبة عشاء في أحد المطاعم هناك، وكانت كمية الأكل التي قدمت للمدعوين مبالغ فيها وأكثر بكثير مما يحتاجون، وفي نهاية الدعوة جاء مسوؤل التأمينات الاجتماعية الى الشخص الذي دعا الى العشاء وأصدر غرامة مالية عليه تفوق قيمة الفاتورة المستحقة...فأستهجن ذلك الشخص الأمر، وكان من مسؤول التأمينات الأجتماعية أن قال له: أن هذه الموارد التي زادت عن حاجة المدعوين من الأكل هو استهتار بالموارد التي هي ليست ملكا لك للتصرف فيها كيفما تشاء حتى وإن كانت على حسابك الخاص، بل هي ملك للدولة الألمانية ولكل فرد فيها ... نعم هكذا تدار الموارد بطريقة حكيمة وراشدة وخصوصا فيما يتعلق بأمر يهم عامة الناس.

نعم، ان الهدر الغذائي قد لا تتحمله الأسرة وحدها، فقد يرتبط بمراحل الانتاج والتخزين غير الفعّال كما أشار معالي الوزير الأمر الذي يؤدي الى تلف وفساد المواد الغذائية، ولكن ذلك لا يعفي المسوؤلية لتكون البنية التحتية مناسبة وملائمة لقواعد السلامة والصحة العامة، لأن هذا النوع من الهدر الغذائي يكلف خزينة الدولة، كما يكلف المؤسسات والشركات المصنعة والمستوردة مبالغ كبيرة من جهة، وينعكس سلبا على جودة المنتج من جهة ثانية، إضافة الى تأثيره على نقص توفر هذه المواد بشكل مناسب، وبالتالي فإن ذلك يؤدي الى زيادة الأسعار التي تتحملها الدولة وتنعكس سلبا على حياة المواطن.

الموضوع شائك وهو بحاجة الى معالجة ادارية وقانونية وثقافية وحوكمة ومراجعة استراتيجيات تقييما وتقويما، ومحاسبة كل جهة تقصر لنحافظ على مواردنا الغذائية بتوازن واتزان دونما هدر أوتبذير، اضافة الى ترسيخ ثقافة الأنتاج لا الاستهلاك والهدر الذي يقع على عاتق مؤسساتنا التعليمية والتربوية في المدارس والجامعات لتأخذ دورها في ذلك ضمن مناهجها التدريسية، وأن يكون الأعلام ذراعا قويا يساند كل الجهات بالتوجيه والارشاد وبث البرامج الهادفة للأسرة والمجتمع لتكون المعالجة شاملة وذات جدوى.

ونسأل الله أن نحافظ على النعم حمدا وشكرا، ليبقى أمننا الغذائي أولوية قصوى التي هي مسوؤليتنا جميعا أفرادا ومؤسسات، فهل نحن فاعلون لوقف هذا الهدر لأنه ليس من المعقول أن يستمر الهدر بشتى أنواعه وثقافة الاستهلاك لا الانتاج التي أصبحت ثقافة نمارسها أفرادا ومسوؤلين على حد سواء، وتوجيه تلك المبالغ نحو تخزين احتياطات غذائية استراتيجية تحفظ توازن الأمن الغذائي كما تحفظ الاستقرار والأمن المجتمعي.

مدار الساعة ـ نشر في 2022/10/29 الساعة 17:18