الدولة الأردنية والخطر القادم
في ظل المعطيات، فكل يوم يمر على الدولة الأردنية بلا إنجاز فيزيائي على أرض الواقع، يعد فرصة ضائعة ومهدورة وخسارة كبيرة لن تعوض، لأننا ببساطة ما نستطيع تحقيقه اليوم سيكون تحقيقه صعبا جدا غدا، بينما نبقى في فلك الإستراتيجيات والخطط والمؤتمرات وإطلاق الرؤى... فقط مع كل ما يمكن بثه على الإعلام من وصف بديعي للقادم المؤمل.
للأسف فخدمة المديونية تنمو يوميا وفوائد الدين تزداد، والخوف أصبح من وصولها قيم تقارب نسباً معينة من قيمة النفقات الرأسمالية المعهودة في الموازنة المالية لتحل مكانها يوما ما، والخطر الأكبر عندما تبدأ بإلتهام بنود من النفقات الجارية التي يصعب وقفها.
أنا جيولوجي وقد أتحدث بأريحية عن الصخور أو البيئة والتغير المناخي والتنمية بحكم الخبرة والتخصص، ولكنني لست خبيرا ماليا بما يكفي لأخوض كثيرا في حقيقة أن التضخم مع ما ورد أعلاه، وبجانب ضغوطات ملف الشح المائي والطاقة والفقر والبطالة وآثار التغير المناخي، كلها تزداد يوميا وتستنزف الطاقات بأشكالها... ليصبح طرحنا بأن كل يوم أسوأ مما قبله مؤكدا، ونقول حينها بملء الفم أن ما نستطيع تحقيقه اليوم لن نستطيعه غدا.
ما يقلق أيضا ويؤكد على الطرح هو أن تجاربنا في آخر عقدين تقول إن البلاد تتعرض كل عام لصدمة من المحيط أو العالم، ولسنا ممنعين إقتصاديا بما يكفي لتجاوز آثار الصدمات بالشكل المطلوب، فتجد بأن كل صدمة تغير مسار إستراتيجياتنا وخططنا وحتى كتب التكليف السامية، ونحول بنود الموازنة لنتعايش مع الواقع الجديد؛ من آثار حروب العراق ولبنان وغزة وداعش ومخرجات الربيع العربي وموجات اللجوء، والأزمة الإقتصادية العالمية والإرهاب وتفجيرات عمان، وصفقة القرن وأزمة حرب روسيا أوكرانيا التي ما زلنا نعيشها مع العالم ولا نعرف كيف ستنتهي، بينما نفوق رويدا رويدا من تبعات وباء كورونا والحظر وآثاره.
إذن فما زلنا نخطط ونعيش على أمل تحقيق ثلاثية جلالة الملك (إستراتيجيات التحديثات السياسية، الاقتصادية، الإدارية)، ليتحسن واقع البلاد، بينما خططها التنفيذية بالتأكيد تحتاج الوقت والجهد والمال.
خلال العشرة أعوام القادمة يحتاج الأردن بجانب الموازنة الإعتيادية عشرات المليارات وبشكل ملح جدا، للتغلب على تحديات ملفات العطش والجفاف والفقر والبطالة وتحديث وصيانة الشبكات المختلفة، إضافة لتوسيعها والبنى الفوقية والتحتية لإستيعاب الزيادات السكانية (سواء طبيعية أو أمر آخر).
جلالة الملك أطلق عام ٢٠١٨ رؤية مشروع نهضوي نحو دولة الإنتاج والإكتفاء الذاتي، وقطعت حكومة الرزاز فيه شوطا طويلا، وعدل عدة مرات على الفريق الوزاري لضبط المخرجات وإحكام تنفيذ الرؤية الملكية، وبذل في سبيل ذلك الجهد والوقت والمال، وتم إعداد الخطط وتعديل بعض القوانين ورصد البنود المالية لبدء التنفيذ، ليكون للأردنيين مشروع وطني تنموي إقتصادي سياسي فكري، ومع دخول حكومة د. بشر الخصاونة تلاشى كل شيء.
مؤخرا دخلت علينا الشقيقة السعودية بصندوق إستثمارات سعودي، بينما رؤية الملك من نفس الطراز لم تتحقق وكانت قد جاءت عام ٢٠١٤ بعدما نادينا كثيرا ب "مشروع الشعب للإنتاج"، مصر حققت العاصمة الإدارية الجديدة والسعودية حققت مشروع نيوم، وما زالت مدينتنا الجديدة حلماً والتي جاءت وفقا لندائنا صيف ٢٠١٦ بمدينة المغتربين الذكية.
ولأننا ومع كثرة القصص والأحداث والإشاعات اليومية بتنا نتمتع بذاكرة السمكة، فأود جلب إهتمامكم إلى أن ما جاء مؤخرا عن هذه المشاريع هي فرص مهدورة، وكان علينا تحقيقها في حينه، وقبل أن تجد أمور تعيق الأمر، بينما ما زلنا نزداد فقرا وبطالة، والأجيال من الشباب رهن البطالة والإحباط، ويخيفني جدا حقيقة أن يغادروا من جامعتهم سيرا على الأقدام بين مدينتين، فهذا الجيل لن يركب عليه نموذجنا بإقناعه بالأحزاب أو غيرها، إنه جيل الثورة الرقمية الرابعة والخامسة القادمة وهي مخيفة أكثر لمن لا يتطور، بينما نعيش عصر الطوابع والنقل المتهالك.
مؤخرا طرحنا عبر منتدى النهضة كحالنا كمجموعة تأثير وإشتياك إيجابي دراسة الحالة العامة، ماذا لو إستثمرت الحكومة والشعب بالمساهمة العامة والشراكة، في تعدين وتصنيع فوسفات وغاز الريشة، وأطلقنا مؤتمرا حول ذلك، وكانت الحكومة كعادتها غائبة عن الحدث، والصمت يخيم على نخبة عمان وصانعي القرار أمام تكهنات تشكيل أم تعديل حكومة الخصاونة، بينما ما زلنا نزداد فقرا وبطالة والمحافظات آخر هموم نخبة عمان من رواد الصالونات السياسية ومآدب السفراء وفلان طلب وفلان أعطى وفلان أولم لفلان، والمشهد يعيد إنتاجهم في مقدمة صانعي القرار، بينما لا نجد منهم من يصنع قرارا بتنمية فيزيائية على أرض الواقع.
لن أطيل، فالواقع يتحدث عن نفسه وإنني أخشى كثيرا لأن كثيرا ممن في المقدمة يهدرون الفرص، وما يمكن تحقيقه اليوم قد لا يمكن تحقيقه غدا... فتزداد الفجوة، وأن الجيل الذي قرر العودة بلا حافلة من مدينة إلى أخرى لن ينتظر عجز هؤلاء.