هزائم الملاعب وخسارتها
هل كشفتنا الرياضة أم ورطتنا؟
أعرف أن الإجابة تحتاج لنقاشات طويلة، ومصارحات أعمق، لكن ما حدث قبل ايام في إحدى المباريات، وغالبا ما يتكرر في معظم المواسم، يضعنا، دولة ومجتمعا، أمام وقائع مفزعة، لابد من التعامل معها بمنتهى الحكمة والجدية، المسألة هنا لا تتعلق بمجرد شغب في الملاعب، أو على المدرجات، وإنما تحول إلى «كرة» تتدحرج، فتخرج أسوأ ما فينا من «كره» وانقسامات مغشوشة، وأحقاد دفينة.
دفعنا على جبهة السياسة أثمانا باهظة لغياب الثقة، و الانسحاب من المشاركة بالعمل العام، والاستغراق باليأس والتلاوم وجلد الذات، الآن ندفع على جبهة الرياضة أثمانًا أخرى للتعصب والشحن الاجتماعي، وفتح المقابر التاريخية، في المرة الأولى افتقدنا الروح السياسية، وفي الثانية افتقدنا الروح الرياضية، وبينهما غابت هويتنا الوطنية الواحدة، و انتصرنا لنوازع الفرقة والتشرذم، والاصطفافات المخجلة، النتيجة أننا خسرنا جميعا، الوطن والمواطن على حد سواء.
كشفتنا الملاعب أم ورطتنا؟ أعتقد أنها فعلت بنا الأمرين ، كشفتنا لأن لدينا مشكلة في الأصل، فحالة مجتمعنا ليست بخير، المؤشرات عديدة ومتنوعة : تصاعد حدة الجريمة، انتشار تعاطي المخدرات على إيقاع الفقر والفساد، تراجع حضور الطبقة الوسطى لحساب ثنائية طبقية أعلى هرمها الأثرياء، وقاعدتها العريضة من الفقراء، التسفل الأخلاقي وانحدار الذوق العام، إحياء نزعة «من أنتم ؟»وما تحمله من تصنيفات تجرح المواطنة والإنسانية ، كل هذه المؤشرات وغيرها، أفرزت من المجتمع ما نسمعه يتردد على المدرجات والمنصات والمجالس، وما نراه في المحاكم والشوارع والمدارس والجامعات.
الملاعب ورطتنا أيضا، فيما مضى من سنوات كانت الأندية الرياضية تشكل مصدات لحماية المجتمع من دخلاء الداخل والخارج، وما زالت ذاكرتنا الوطنية تحمل صورا مشرقة لما فعلته دفاعا عن القضايا الوطنية، الآن -للأسف - تغيرت الصورة، لقد أصبحنا مأسورين، بفعل بعض الأندية، لثنائية قاتلة قسمت المجتمع على أساس الجغرافيا والديموغرافيا، وزرعت في تربتنا الوطنية أشواك الكراهية و»الغل» السياسي والاجتماعي، ثم تمادى بعضها لإلهاب مشاعر الناس بشعارات فاسدة، وهتافات أساءت لتاريخنا وقيمنا وعيشنا المشترك.
أعرف تماما أن للرياضة في العالم أجواء خاصة، يتوزع فيها الفرح والانحياز لهذا الفريق أو ذاك، ولا تخلوا أحيانا من شغب على المدرجات، هذا مفهوم في إطار الصراع على الكرة التي تتقاذفها الاقدام (والأيدي أيضا )، لكن ما يحدث في بلادنا تجاوز ذلك، ووصل حدودا لا يجوز أن يصل إليها، الرياضة حين تقسم المجتمع، وتزرع داخله الفرقة، وتولد فيه النعرات الجاهلية، تصبح وباء خطيرا، يهدد الأمن الوطني، حينئذ يلزم التعاطي معها بالقانون الرادع.
حين تركنا للمتعصبين والجهلاء والغوغاء أن يتقدموا صفوفنا، ثم صفقنا لهم، أصبحت جردة خسارتنا كبيرة: خسرنا الروح الرياضية والأخلاقية، وأسعدنا الذين ينتظرون منا أن ننشغل بمباراة على حساب قائمة قضايانا الكبرى، والأهم أننا خسرنا صفونا الاجتماعي، وجرحنا وحدتنا الوطنية، وقدمنا لابنائنا أسوأ الدروس والنماذج، لقد هزمنا جميعا قبل المباريات وبعدها أيضا.