البراري يشارك في ملتقى السرد الخليجي الرابع بعمان
مدار الساعة - إبراهيم السواعير - أثارت ورقة قدّمها الأديب والروائي كاتب المسرح أمين عام وزارة الثقافة هزاع البراري، بعنوان "الكتابة احتفاء بالنقصان"، حضور ملتقى السرد الخليجي الرابع الذي أقيم في محافظة ظفار بُعمان، وقدّم فيه البراري سيرة مبدع غلّف أعماله الخوف، كثيمة رائعة تقبل فلسفة الكاتب وتتطوّر مع عقله ووجدانه وتقليبه الأمور في الطفولة والكهولة وفي ما يستجدّ من إبداع.
وحازت الورقة التي وضع البراري نفسه فيها بمواجهة موضوعة "النقصان"، بعد أن وصل إلى مراتب عليا في الرواية والقصّ ومعالجة النواقص الإنسانيّة على خشبة المسرح من خلال نصوصه الضّاجة بالحركة وطغيان المشاعر، وفي ورقته تحدّث البراري حول عمق الطفولة في إحساسها بالخوف والنقصان اللذين تناميا معه لتشكيل حالة إبداعية تعيش الألم وتقرأه من أكثر من منظور فلسفي روائي تغلفه لغة شعريّة ومقايسات عمريّة ورحلة عمر، بثّها البراري ضيوف الملتقى بهذه الفقرات:
(أنا خائف، كل ما أحاط بطفولتي عمّقَ فيّ الخوف، وجعلني أتوجس خطواتي في محيط موحش، موحش بمعنى اتساع حجم الفراغات وتكرار النواقص، واستشراء السؤال في طفولة موحلة بالشك، ومنشغلة بملء الفراغات، هو شك بحجم ذاك التفتح البسيط، وحياكة للفراغات بسلسلة لا متناهية من الحكايا والتخيلات، لم أكن أعلم وأنا وليد وُلد على الحد الفاصل بين البادية والقرية، وهَشَّ على أحلامه الأولى كما كان يهش على غنمه ذات رعيٍ متقطع، أني سأوغل في التفكر والرفض، لعدم اكتمال الصور وانبتار الأحداث، وخديعة القص القروي على أطراف المساءات الشتائية، أرفض أن أفرد وحيداً كراعٍ في الفضاء المتسع والجغرافيا العدائية، في عمر من المفترض أن يزهر فيه الشعر، وتمارس فيه شقاوات لا حصر لها، وألعاب لا منتهى لها، ككل الطفولات. لكنّ أيّاً من هذه المساحات لم تتحقق.
كان هذا أول نقص يقضم فرح ذاك العمر، فاستعضت دون وعي عن كل هذا، ببناء الحكايات التكميلية، فكنت إن مرّ شخص غريب بقربي أشغلت نفسي بتخيل قصة له وعنه، حكاية لا أساس لها سوى أن لا أجعل من عبوره أمامي مجرد لقطة تذوب سريعاً في الذاكرة؛ وإن عبرت فضاءَ النظر طائرةٌ وقد بدت بحجم الذبابة، أرسلت خلفها مخيلتي فأكون أنا بالتأكيد بطلاً لحدث ضخم داخل هذه الطائرة. كنت صياد أحداث وصور ناقصة، كان علي إكمال هذا النقص، بل افتعال حكاية كاملة، هكذا لأني كرهت الأشياء الناقصة والمبتورة، ولأني كنت حينها أرى في عدم الاكتمال سوء حظ، وقدراً ثقيلاً لا يمكنني في هذا العمر المبكر ان أستسلم له.
اليوم، وأنا على أبواب كهولة مبكرة، أجدني متخماً بالنواقص، أشعر أن الهواء جاثم قطعة واحدة، فقطعه بالسكين حتى أتنفس، فلم أفعل خلال كل ما مضى، سوى توسعة هذه الفراغات حتى صار ما هو متاح من حياة حقيقية، مجرد نتف وهوامش، كغدران صحراوية تضمحل كلما تعمّق حر الصيف، لكننا نحث إليها الخطى، نعتصر الماء من الوحل، ونستمر في البقاء من أجل سرد حكاية جديدة عن غدير ربما كان هنا، أو ربما سيأتي ذات يوم، فالجداول الموسمية لم تعطنا يوماً سرها، فهل نكشفه حين نروي حكاية عنها، أم إن ما نفعله هو أننا نلقي بأسرارنا لتكون في مرمى المطر المفاجئ، فنكوّن ذات قحط سيلاً يأكله النقصان وتمتصه حرارة الشمس؟!.
هكذا أكتب النقصان كلما داهمتني الرواية، هكذا أكتب الرواية كلما تعاظم فِيّ النقصان. إنني حين أكتب موجوعاً بوجود الموت بين حياتنا إنما أعلن هلعي من أن عدم الاكتمال هو الأساس، وأن الحياة كما الرواية مجرد عدد كبير من الرتوقات غير المتقنة. الكون يتفتق باستمرار، والعمر تتفسخ أيامه عنا، فتصاب الأحلام والدواخل بالنزف والحزن، ومن ثم يأتي العفن على كل شيء. إن نحن لم نواصل لعبتنا العبثية في التقطيب والرّتق من خلال الكتابة، فما إن نتوقف حتى تأكلنا الفراغات السوداء، ونسقط في التلاشي.
لذا كانت أحجية ملء الفراغ في لعبة الكتابة. لقد أدركت أن الفراغ هو من يعطي لموجوداتنا معنى وقيمة، وأن الموات بوصفه المسؤول الأكبر عن إحداث النواقص والفواقد في وجودنا، هو من يجعل من حياتنا المتناهية في القصر ذات تأثير حاسم، وذات أثر جمالي مؤلم، ألم قادر على الإنتاج والإجادة والإبداع، لأن الأساس في كل ذلك هو الرفض لواقع ماثل أو حالة حادثة لا محالة، فيغدو الفراغ أكثر جمالاً في فظاعته من قسوة غيابه المكتمل، خصوصا عندما نؤثثه بالرواية. النقص هو المساحة التي تُركت لنا لنبنيها بالأسئلة والمخاوف، لأن الكتابة ضد الطمأنينة، والحكاية نقيض الموات، فهل نكتب مرويتنا لسد الهفوات وقطع دابر المجهول؟ تلك هي الكتابة الميتة. فالرواية تأخذ مكانتها عندما تفجر سلسلة لامنتهية من النواقص، محدثةً حالة غير متوقعة من الفراغات، كيف إذن نجعل من هامش ضيق من الإجابة فوهةً مرعبة للتساؤل وعدم اليقين؟! أتساءل في كثير من الأحايين لو لم أحْظَ بحياة مدججة بالفجوات والتشوهات، هل كنت سأتمكن من كتابة ما كتبت؟ وهل من المستحسن المحافظة على تنامي حجم الفاجعة في حياتنا، لنستمر في تخييط الجراح بالرواية؟ لست معنياً بالإجابة في هذا المقام، لكني بكل تأكيد خائف، وترتجف أوصالي كلما تأمّلت هذا الوجود الفراغ وهذا الفراغ الوجود. إنني أجد في النقص جمالاً مستفزاً، وفي الكمال بشاعة تضيق معها الآفاق، وتنعدم معها مساحات التخييل والكتابة.
أكتب احتفاءً بالحياة الناقصة لوجود الموت فيها، اكتب احتماءً من الموت الناقص بسبب استمرار الحياة حتى هذه اللحظة، أكتب للفقد الناقص والحب الناقص والعلاقات غير المكتملة، أكتب للموتى الذين نتذكرهم فلا يهنأون بالنهاية الكاملة، وأكتب لأننا نخشى النقصان، وننتشي لاستفحاله فينا، فالرواية التي أكتبها هي محاولة للرقع، فلا بأس من تعدد الرقع وتلاحمها إذا شكلت بكليتها حياة فسيفسائية مغايرة للواقع غير منفصلة عنه لأنها ناقصة أيضاً، الجمال في النقصان، والإبداع احتجاج على الاكتمال.
إذن، الكتابة لم تعد في مواجهة مع الفراغات والنواقص، بل هي تكريس لكل هذا الألم، نعتاش روائياً على المكسور والمهزوم والمسروق، فالوعي لا يبنى تحت سقف إسمنتي، إنما ينفذ من المسام والشقوق، والفكرة تتدحرج على أرض كلما جهلتَها فتحت نوافذها على الاحتمالات. اليوم أنا لا أبحث عن المكتمل والمتواصل لأني أهذي بالرواية، لكنني بالتأكيد مع ذلك كله أحلم باكتمال لا نقصان فيه، وأشعر بفرح غامر لأن الحلم هو وحده المكتمل، فهو لا يموت أبداً كونه ببساطة لن يتحقق).