الأردن.. دولة أم عشيرة؟
كان مجتمع شرق الأردن خاضعاً لما بقي من السلطة العثمانية حتى عام 1917، وكان الجميع يتعاطون بعلاقات عالية الرفعة، ويتفاعلون كشعب متحد مع مستجدات المستقبل الاستعماري المتأخر، وخرج بينهم العديد من الزعامات التي تجاوزت حدود الجغرافيا لتنادي باستقلال العرب، وبعد نشوء حكومة الشرق العربي أو الدولة الأردنية بتسميتها المتأخرة، لم تستطع سلطة الانتداب تغيير شيء من أعرافهم وتقاليدهم واحترامهم للقوانين الجديدة التي أعادت تنظيم حياة السكان في المدن والقرى والبوادي.
وكما ذكرت سابقاً، فإن الروح الوطنية والعروبية كانت في أوجّها، وانخرط الجميع في المجالس التشريعية والنيابية، وتحمل الجميع ضنك العيش والصبر على فقرهم المادّي دون أن يبخلوا أو ينكصوا عن واجباتهم تجاه بعض البعض، فتآلف الناس وتصاهروا واشتبكت العلاقات عالية الشأن، حتى أصبح الأردنيون الجدد منفتحين أكثر على قضايا الأمة، ودعم الجميع حركة النهضة الجديدة للدولة، رغم تدني مستوى التعليم، ومع كل ذلك فقد كانت القيّم مقدسّة والحياء يلف الرجال والنساء، حتى النساء كان لهن دور عظيم في تربية الأبناء على القيم الفاضلة، وكان من العارّ أن تُقتل امرأة..
في ذلك الزمن كانت سلطة الدولة أقوى، واحترام السكان للقانون أعلى مرتبة، وفي حقب من التاريخ المتقدم شارك الزعماء الوطنيون في الدفاع عن سلطة الدولة وكسروا شوكة حملة البنادق والاضطرابات المدعومة من الدول الأكبر سكاناً والأعنف سلطة على مواطنيهم، واختراعهم لمصطلح القومية، وانخرط الأردنيون في مؤسسات الدولة، حتى أصبح الأردن مكافئاً للدول العربية الأكبر، وشاركوا في الحروب ضد الأعداء، وشيئاً فشيئا بدأ التحول القبليّ الى قبول الاحتكام للقوانين، حتى ألغيت محكمة العشائر عام 1976، وقلما يذكر التاريخ أن الأردنيين ثاروا ضد قوى الأمن لأنهم ألقوا القبض على مطلوب لجريمة.
بعد مئة عام على نشوء الدولة، لا نريد للدولة ذاتها أن تحكم بعقلية العشيرة أو القبيلة، فالحكومة ليست قبيلة تستأثر بإقطاعها وتتركز في عاصمتها وتنسى رعاياها في الأطراف والمدن البعيدة عن حوزة العاصمة، ولا نريد لمجلس النواب أن يكون عشيرة يجتمع الأعضاء في «شق العرب» وتقبيل اللحى لتمرير مواد القوانين، ولا للجهاز الأمني أن يبقى مراقبا للأحداث حتى تقع الواقعة لننقل المقتول الى المقبرة ونذهب بالقاتل الى المحكمة، ولا للمجتمع الذي يطرح نفسه بديلا عن الدولة والقضاء، وينتج أسماءً لا علاقة لها بتاريخ القضاء العشائري.
اليوم يجب علينا أن نقف لنحاسب أنفسنا، ونخرج بنتيجة لخيارات مستقبلنا، فإما أن نحتكم الى سيادة القانون ونُحكم بقضاء عادل يعطي كل ذي حق حقه، أو نعود الى مجتمع العشيرة وميزان الأقوى والسماح للبطش بكل أعراف الدولة، وفي رأيي الشخصي وما عرفته من سوابق لرجال العشائر العمالقة، فإن على أيٍ ممن يقدم نفسه شيخاً أو وجيهاً لإصلاح ذات البين، أن لا يتدخل في قضية أطرافها من المجرمين أو تجار المخدرات أو من المعتدين على حقوق الآخرين، وأن تنتهي قصص الجاهات والعطوات لأتفه الأسباب، خصوصا حوادث السير التي ينجم عنها إصابات أو وفايات، فتلك الحوادث يجب أن تترك للمحكمة لا لتدخلات بعض الأشخاص الباحثين عن فوائد واستعراضات.
نحن اليوم في ظل دولة، وإذا أردنا أن نعود الى غابر السنين فعلينا أن نتحمل وزر الأجيال الجديدة التي لا تدرك أياً من الأعراف القديمة، وعلى مناهجنا التعليمية في المدارس أن تحتوي على نصوص يتعلمها النشء في جمالية العلاقات الاجتماعية وأمثلة على الإيثار واحترام الآخر، وكيف يشارك النشء في علاقات راقية وقبول الآخر كأخ لهم وشريك في الحياة العامة، وهذا للأسف لم ينتبه له المشرعون الذين يطبقون ما يرّد لهم من قوانين، فالبيت أولاً والأب والأم هما ركيزة المجتمع وتربية الأولاد تربية صالحة، لا زرع العنجهية والتفاخر بالأنساب، فلتنظروا الى نسب قتل النساء والى ارتفاع مخيف في حالات الطلاق على أتفه سبب.
اليوم يجب على أركان الدولة أن تقيم خلية عصف ذهني لمراجعة القوانين، وتغليظ عقوبات الجرائم المرتبطة بالمخدرات والاعتداءات الإجرامية، وعلينا أن نهذب أخلاقنا في الشارع ومع الناس، فالدولة ليست عشيرة، أولم يروا الى السيد » إلون ماسك» كيف زرع الفضاء بالانترنت المفتوح وهو أغنى رجل في العالم، وليس له عائله ولا عشيرة ولا قبيلة، فقط فكر وعمل.