زمن
عبدالهادي راجي المجالي
أكثر الفيديوهات متابعة, على موقع يوتيوب أغنية (بوس الواوا) لهيفاء وهبي , لكن سؤال هل كثرة الدخول إلى هذه الأغنية هو بغرض الطرب أم النظر إلى سيقان (فوفو)...ودلعها ؟ الإجابة لديكم .
وأكثر الصفحات متابعة على الفيس بوك, هي صفحة (فوفو) أيضا, بالمقابل لو قمت بعمل صفحة عن تاريخ أم كلثوم, ستجد أن حجم الدخول إليها أقل بكثير من صفحات هيفاء ..
في بلادنا أيضا, يوجد كاتب اسمه خيري منصور, وقد ابعدته إسرائيل عن الضفة الغربية عام (1967) , بعدها تفرد بقراءة الواقع الفلسطيني وأنتج (انطولوجيا الشعر الفلسطيني المعاصر) والتي نشرت في العاصمة الروسية موسكو, وقبل ذلك كان من أهم القامات الفكرية والأدبية في العاصمة اللبنانية بيروت وما زال..وهو مفكر, وقد شاهدته يوما في مؤتمر بالقاهرة ..كان حين يتحدث يستمع له جميع الحاضرين بمن فيهم (علاء الأسواني) ..خيري منصور قامة أدبية وفكرية عربية ..
ويوجد لدينا أيضا عمر زوربا, وهو شاب بسيط ..يتحدث عن (جرزاية الصوف) ..وعن وزنه , وعن مواضيع إجتماعية بسيطة, ويكتب بلغة عامية وغالبا ما ينثر أحلامه ومذكراته, على مواقع التواصل ..ولكنه يحظى بمتابعة هائلة جدا, بالطبع عمر ليس مثل خيري منصور ..وأنا أيضا لايحق لي أن أقارن نفسي بخيري منصور, لكن السؤال ..هل يجوز أن نقيس عمق الإنسان وحضوره في المجتمع بما يأتيه من مشاركات على مواقع التواصل ؟
في بلادنا صرنا نقيس تأثير الشخص بعدد (اللايكات) وقوته أيضا بعدد ما يحصل من مشاركات, مع أنني أستطيع أن أحقق أعلى تداول على الفيس بوك إطلاقا إذا قمت بنشر صورة لي ....مع (هيفاء وهبي) وأعلنت عن علاقة حب تربطنا, في النهاية الفيس بوك ليس مقياسا للوعي ولا للمعرفة .
زوربا ظاهرة ..هو يشبه عبدالرحمن الأبنودي الشاعر المصري العظيم الذي وظف القصيدة في قضيته, وظفها في الرفض في المسار السياسي ..وحين كتب قصيدة (يامنه) جمع فيها نظرته للموت والحياة, وغياب السنين ..طبعا الأبنودي لا يقارن بأحد ..لكن زوربا دون أن يدري هو يقدم مذكرات شعبية لفتى متمرد ..عانى من الطفر والحرمان, ويكتب بلغة عامية لكن دون أي محتوى سياسي او حتى اجتماعي ....ولو قرأ عمر زوربا ما كتب الأبنودي لعرف كيف يؤسس لحالة وعي فيما يكتب, وفي حضوره الجماهيري.
أنا أعترف أن الزمن تغير, والفيس بوك صار بديلا للكتاب صار بديلا للغة الفصحى, ومن يتابعونه ..لم يعودوا بحاجة لقراءة ( همنغواي) أو (ماركيز) لم يعودوا بحاجة لقراءة :- نصر حامد أبو زيد , ولا حتى الكواكبي ..لم يعودوا بحاجة أيضا لقراءة ..أخطر ما يكتب الان في نشوء التطرف بيد أستاذ أصول الأديان (محمد بن عبدالله المختار الشنقيطي) وعمر زوربا ليس بحاجة لذلك لأنه ..أسس منهجا جديدا في الأدب, قائم على سرد الأحداث اليومية بعفوية وببساطة ...
لا أقصد الإنتقاص لاسمح الله, من تجربة (زوربا) ..بالعكس هي تجربة تستحق أن تقرأ بعناية, وأنا شخصيا من المتابعين لصفحته ...
في الجامعة الأردنية, وحين كنت طالبا فيها ..كان أستاذي في الأدب الجاهلي نصرت عبدالرحمن - رحمه الله – يعطيني بعض ما نشرته المجلات المصرية له, فهذا الرجل أخذ مساحات واسعة من الدارسين, حين فند رأي طه حسين في الشعر الجاهلي , وكنت أقرأ ما كتب ..وكيف أن لغة العهد الجاهلي مختلفة عن لغة العهد العباسي أو الأموي ...واستوعب نظرية لغوية معقدة, ترجمت لعدة لغات ...لهذا لم يكن جيلي يدخل في مشاجرات عبثية, ولم نكن نحمل سيوفا في حرم الجامعة لأن وعينا كان يحمينا من أن نكون كذلك ..
ليست الأردن فقط من تعاني من أزمة وعي فالعالم العربي كله صار رهين (شعبولا ) و(هيفاء وهبي) و العالم العربي صار يطارد أحلام المطربة الإماراتية ..والعالم العربي أيضا يحتفل بتامر حسني ..والعالم العربي أنتج كل هذا التطرف لأن شخصا مثل خيري منصور ..لم يعد يجد ما يكفي من المساحات عند هذا الجيل المبتلى بالفيس بوك ...
أنا حزين جدا, ولولا لقمة العيش لما أمضيت ما تبقى لي من سنين في هذه المهنة أبدا ...لقد صرنا من الزمن الماضي, وكل ما أحبه هو أن أجلس في سويعات المساء على مكتبي في مركز الحسين الثقافي, وأقرأ قصيدة (لاعب النرد) ..لمحمود درويش والتي تشرح تعب كل واحد فينا, وأقلب مواجع العمر وأطويها صفحة تلو أخرى وشهقة تتلوها شهقة ...لنعترف لا الزمن زمننا ولا حتى الوطن وطننا ..ولا الأيام تلك التي كنا نظن في لحظة أنها حنونة ..بقيت حنونة .
الرأي