شراكة مسيحية اسلامية
أ.د. عصام سليمان الموسى
هذا التآخي الاسلامي- المسيحي الفريد من نوعه الذي نعيشه هذه الأيام في أعقاب أحداث الكرك والقطرانة المؤلمة لا يثلج الصدور فحسب، وانما يكشف عن المعدن الحقيقي للحمة الشعب الأردني العربي الأصيل، هذه اللحمة الوطنية مدادها: «انه بمقدار ما يعني المسيح لأتباعه من المسيحيين، فانه يعني كذلك للمسلمين» (بلال حسن التل).
يتحدثون عبر المنابر عن «النموذج الأردني»، ويظن الغريب عنا انه شعار تطرحه وسائل الدعاية والاعلام للاستهلاك الجماهيري، لكننا نحن ابناء الأردن نعرف في الحقيقة انه ليس كذلك. نعرف تماما ان الشراكة المسيحية–الاسلامية حقيقة من حقائق الحياة العربية-الأردنية، وان جذور هذه الشراكة ضاربة في عمق التاريخ، نلخصها في اربع نقاط:
1- المسيحية قديمة دخلت المنطقة العربية منذ القرن الميلادي الأول: فلقد تعمد السيد المسيح في الأردن ، وسار على أرضه، لذا فهي جزء من «الأرض المقدسة» (The Holy Land) وفيها المسجد الأقصى «الذي باركنا حوله» (القرآن الكريم). وتبين رسالة القديس بولص الى أهل غلاطيا، التي كتبت حوالي عام 36 للميلاد رحلته التبشيرية في مملكة الأنباط: «...انطلقت الى العربية ثم رجعت الى دمشق». وحين تحولت الدولة البيزنطية الى المسيحية في عهد الامبراطور قسطنطين (306–337م) في القرن الرابع الميلادي تنصر الكثير من عرب بلاد الشام والجزيرة حتى اليمن. وفي عهد هذا الامبراطور بنيت كنيسة المهد في بيت لحم وكنيسة القيامة في القدس. كما وجدت كنائس كثيرة في طول البلاد الأردنية وعرضها من العقبة الى البتراء الى ام الرصاص الى عمان الى ام الجمال وغيرها، وكلها دلائل تشير الى التواجد المسيحي العارم في المنطقة.
2- شراكة مسيحية اسلامية توجها الرسول العربي محمد (صلى الله عليه وسلم) بمعاملته الكريمة لأهل الذمة، ولخصها لاحقا عمر بن الخطاب بمقولته المشهورة: «... ولا يُكرهون على دينهم «، وهي العهدة التي جعلت العرب المسيحيين يقاتلون مع قومهم منذ بزوغ الإسلام تحت شعار القومية الذي رفعه بنو تميم- من أكبر القبائل المسيحية- «نحارب مع قومنا»، فانضموا الى اخوتهم يقاتلون معهم تحت لواء واحد في حروب فارس واليرموك الفاصلة، وقبلها يوم ذيقار. وكذلك حارب مسيحيو بلاد الشام مع الجيوش الأموية وساهموا في فتح شمالي افريقيا. وكان معاوية بن ابي سفيان، مؤسس الدولة الأموية، قد عمق هذه العلاقة حين وبخ عربيا مسلما اشتكاه يهودي له بقوله: «نحن أخوة في عبادة ألله، لا فرق بين مسلم وذمي في الحقوق والواجبات، الدين لله والأرض وما عليها للجميع». ثم صالح اليهودي وطيب خاطره وقال للمسلم: «ألم تسمع بقول رسول الله الذي قال للمسلمين- من ظلم معاهدا فأنا حجيجه». وفي العصر الحديث، قامت الثورة العربية «على مبدأ المؤاخاة بين القومية العربية والإسلام» (سليمان الموسى). وحين كتب مكماهون الى الشريف الحسين بن علي طالبا اليه «استثناء الساحل السوري (لبنان) من حدود الدولة» في المشرق العربي رد عليه الشريف ملك العرب بقوله انها بلاد «عربية محضة ولا فرق بين العربي المسيحي والمسلم فإنهما ابناء جد واحد»، واستشهد بقول الخليفة عمر بن الخطاب: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا».
3- دور المسيحيين في النهضة العربية الحديثة: ويبدأ هذا الدور في البروز منذ عام 1610 حين دخلت اولى المطابع الى الأديرة المسيحية. لقد منع شيخ الإسلام العثماني الرعايا المسلمين من استخدام المطابع باعتبارها «رجس من عمل الشيطان»، فتقدمت إثرها اوروبا واستشرى الجهل عندنا. لكن الفتوى استثنت الأقليات الدينية من اليهود والمسيحيين: فاستخدم اليهود المطبعة لأغراضهم الخاصة (وأقدم المطابع التي وجدت في القدس يهودية)؛ لكن بالمقابل، استخدم العرب المسيحيون المطبعة لحسن الحظ لأغراض النهوض بالمجتمع علميا، ولطباعة كتبهم الدينية والتراثية ، مما اسهم في حفظ جذوة التراث العربي وهاجة، وتعمق الشعور بالهوية العربية. وتعلم المسلمون الى جانب المسيحيين في المدارس فقاد ذلك الى نهضة فكرية قومية شاملة في بلاد الشام تحديدا توجت بالثورة العربية الكبرى ومبادئها.
4- دور الصحافيين والمفكرين والشعراء العرب المسيحيين في النهضة: اعتبارا من منتصف القرن التاسع عشر بدأ الصحافيون العرب في اصدار صحف عربية الهوى والتطلعات « الأمر الذي حقق أكبر الأثر في نشر الوعي القومي» (فدوى نصيرات). ودعا ابراهيم اليازجي قومه :»انهضوا واستفيقوا ايها العرب». وحين اشتد ضيم السلطة العثمانية في هذا القرن هاجر صحفيون الى الشمال الإفريقي، منهم الشقيقان تقلا لإصدار جريدة (الأهرام) في مصر، كما لحق بهم جورجي زيدان وأسس «دار الهلال» هناك أيضا. وربما كان هؤلاء من المحظوظين لأن جمال باشا السفاح شنق في 5 و 6 أيار عام 1916 قادة الفكر العربي في دمشق وبيروت دون ان يميز بين مسلم او مسيحي. كان مبعث غضب جمال على هؤلاء الرجال الشرفاء وقفتهم الصلبة أمام عملية التتريك ودعوتهم لاستقلال العرب ونهوضهم. انها شراكة عربية مسيحية اسلامية ابدية، بل لحمة أصيلة قديمة قدم العرب، ميزت النموذج الأردني- وارث مبادئ الثورة العربية الكبرى- عبر القرون في العيش المشترك، وجعلته رائدا في العالم والبلاد العربية، أشرقت معالمها بوضوح في لحظة عصيبة مررنا بها وتجرعنا معا كأسها الحزين، لننهض كطائر الفينيق على حقيقة اخوتنا ووحدتنا، الأمر الذي يضع على اكتافنا، مسؤولية الحفاظ على هذا النموذج بقيادتنا الهاشمية الحليمة، ويحتم علينا اعلاء مبادئ هذا النموذج بمحاربة الفكر المتطرف ومواجهة السلبية، وتعظيم الايجابيات التي تجمعنا وتقربنا.
الرأي