التحقيقات الكاذبة في اغتيال شيرين أبو عاقلة
بعد أشهر من التحقيقات أعلنت السلطات الإسرائيلية أن اغتيال الصحفية الفلسطينية الأميركية، شيرين أبو عاقلة، لم يكن جريمة جنائية، وأن الاحتمال الأكبر أنها قُتلت بنيران خاطئة من الجيش الإسرائيلي أثناء إطلاق النار على من تم تشخيصهم كمسلحين فلسطينيين، خلال معركة تعرضت فيها القوات الإسرائيلية إلى وابل من الرصاص الكثيف، والعشوائي، بشكل عرض جنودها إلى الخطر.
لم تكن نتائج التحقيقات الإسرائيلية المنفردة مفاجئة، فما تقوم به طوال عقود طويلة هو محاولة "تبييض سمعة" جيشها المتورط، والمُدان بجرائم حرب وثقتها تقارير الأمم المتحدة، والمؤسسات الحقوقية على مر السنوات.
مباشرة قالت منظمة بيتسيلم الإسرائيلية بعد إعلان نتائج التحقيق "كان حمل إسرائيل على إصدار اعتراف خافت بأن جنديًا قد قتل الصحفية شيرين أبو عاقلة يتطلب ضغطًا جماهيريًا ودوليًا كبيرين وهذا أيضًا فقط في مقابل تنصل كامل من أية مسؤولية حيال قتلها. مقتل شيرين أبو عاقلة هو نتيجة معروفة سلفًا لسياسة إطلاق النار المنفلتة التي تطبقها إسرائيل في الأراضي المحتلة. ستستمر هذه السياسة في حصد المزيد من الضحايا طالما استمرت منظومة طمس الحقائق بالعمل دون عائق.".
رغم كل التحقيقات الدولية التي أُجريت منذ مقتل الإعلامية شيرين أبو عاقلة، وأثبتت بالوقائع والدلائل أن الجيش الإسرائيلي هو القاتل، فإن رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي وبدم بارد يعيد نشر الأكاذيب، فمقتل أبو عاقلة حدث مؤسف، وقع لأن المراسلة تواجدت في ساحة مهددة بالخطر خلال نشاط عسكري لإحباط "الإرهاب الفلسطيني" الذي يريد المساس بمواطني دولة إسرائيل حسب وصفه، دون أن يتردد، ويخجل بأن قوات الاحتلال متواجدة على أبواب مخيم جنين، وفي مناطق السلطة الفلسطينية، والمفروض أنها ليست تحت سلطته، وهي أراضٍ فلسطينية.
تريد إسرائيل أن يصدق العالم روايتها، وأن يكذب كل التحقيقات الأممية، والصحفية، أو بالأصح أنها لا تهتم، ولا تلتفت لكل التحقيقات الدولية التي تُدينها بشكل واضح ما دام لا أحد يستطع أن يقترب منها، ويلاحق قادتها المتورطين في جرائم حرب، فالعدالة يمكن أن تصل إلى كل بقاع العالم، إلا إسرائيل فهي مُحصنّة، وفوق القانون، والمساءلة.
نتائج هذا التحقيق الإسرائيلي ليس سوى قنبلة دخانية تحاول حجب الرؤية عن الجرائم اليومية التي ترتكبها سلطات الاحتلال، فالمفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أكدت أن الرصاصة التي قتلت شيرين أطلقتها القوات الإسرائيلة، وتحقيقات وسائل إعلام دولية مشهود بصدقيتها، ونزاهتها، مثل أسوشيتد برس قالت في رواياتها أن أبوعاقلة ربما قتلت برصاصة إسرائيلية، وبعضها ألمح إلى أن القتل كان متعمدا، وأن الصحفيين كان حضورهم واضحا، وليس ملتبسا، أو في موقع الاشتباك.
بعد إعلان الجيش الإسرائيلي نتيجة التحقيق تذكّرت مقالة الصحفي جدعون ليفي في جريدة هآرتس الإسرائيلية بعد الجريمة، ويقول فيها دون لبس "حتى لو عثروا على الرصاصة التي قتلت شيرين، وحتى لو عثروا على لقطات تُظهر مطلق الرصاص سيُعامله الإسرائيليون كبطل فوق الشبهات".
القصة ليست في اغتيال شيرين أبو عاقلة كصحفية معروفة، ومشهورة، القضية، والمشكلة أن قتل الفلسطينيين ليس أمرًا جللًا عند الاحتلال، ولهذا نشرت هآرتس مقالًا بقلم عميره هاس عنوانه "4 شروط ليمر قتل فلسطيني بهدوء"، أهم ما ورد فيه "أن الجيش وضباطه، وجنوده يستخفون بشكل متزايد، وخطير بحياة المواطنين الفلسطينيين، فالجنود مبرمجون للتصديق بأنهم الضحية، في حين أن السكان المدنيين الفلسطينيين الخاضعين للحكم الأجنبي هم المجرمون".
عميره في مقالها تستهزأ بنتائج التحقيق الإسرائيلي، وتقول "الجيش يريد منا التصديق بأن هناك احتمالية عالية بأن الجندي الإسرائيلي من الوحدة الخاصة (دفدفان) قد تشوش عليه الأمر، واعتقد أن الصحفية شيرين أبو عاقلة هي مسلح فلسطيني، وذلك بسبب الخوذة التي توجد على رأسها، والسترة الواقية التي كانت ترتديها، لذلك هو أطلق النار عليها من خلال المنظار الذي يعمل على تكبير الهدف بأربعة أضعاف، من داخل سيارته العسكري المحصنة ضد الرصاص، والتي كان يجلس فيها".
شبكة الجزيرة التي تنتمي لها أبو عاقلة، وعملت لسنوات طويلة فيها اعتبرت التحقيق محاولة للتملص، وجددت تأكيدها بأن تتولى التحقيق جهة دولية، في حين أن عائلتها لم تتفاجأ برفض إسرائيل تحمل المسؤولية، وقالت "مجرمو الحرب الإسرائيليون لا يمكنهم التحقيق في جرائمهم"، والناطق باسم السلطة الفلسطينية، نبيل أبو ردينة وصف التقرير الإسرائيلي بأنه محاولة جديدة للتهرب من مسؤولية قتلها.
لا تُقيم إسرائيل وزنا للمجتمع الدولي، ولا تستمع لصوته، وهي تفعل ما يخدم أجندتها فقط، ففي ظل حالة الجدل المحتدمة بعد اغتيال شيرين، قررت إسرائيل إغلاق سبع مؤسسات حقوقية فلسطينية بعد أن أعلنتها منظمات إرهابية، وجريمة هذه المؤسسات المعروفة دوليا، والمشهود لها بعملها الحقوقي أنها ترصد، وتوثق انتهاكات الاحتلال، ومثالا على ذلك مؤسسة الحق التي وثقت بالدليل الميداني منذ اليوم الأول أن الرصاصة التي قتلت شيرين كانت إسرائيلية، والنتيجة كانت إغلاقها، وملاحقتها بتهمة الإرهاب.
مسلسل سقوط الصحفيين الفلسطينيين ضحايا على يد سلطات الاحتلال الإسرائيلي، أو قتل الصحفيين خارجها في مناطق التوتر، والنزاع، والحروب بفعل سلطات مستبدة، أو جماعات إرهابية، أو ميلشيات مسلحة، أو عصابات منظمة لن يتوقف، وهو ما يستدعي إعادة المطالبة باتفاقية دولية جديدة لحماية الصحفيين.
يتمتع الصحفيون بحماية القانون الإنساني الدولي شأنهم في ذلك شأن المدنيين والمدنيات، ولكن التجارب أثبتت أن هذه الحماية غير كافية، ولا بد من إعطائهم الحصانات الممنوحة لأصحاب الشارات الدولية، كالصليب الأحمر الدولي، وهو نقاش امتد في العقود الماضية، وتعالت أصوات ترى أن الاتفاقيات الدولية تقادمت، والصحافة باتت مُهددة، فالمدنيون في المخاطر يلذون، ويحتمون بمناطق آمنة، أما الصحفيون فيكونون في الخطوط الأمامية، وفي مواجهة الخطر، ولهذا فإن من الضروري تمتعهم بوضع خاص.
في العقود الماضية قُتل مئات الصحفيين في ظروف مختلفة، جُلهم كان يعمل من أجل الوصول للحقيقة، ومنعا، ودرءا للفساد، ويد العدالة لم تجد طريقا إلا نادرا، وظلت صور الضحايا مُعلقة على الجدران، نبكيهم بحرقة دون أن تنال الإنصاف. الحرة